مقتل “البغدادي” والحركات المتطرفة ..
كتب – وسام نصر الله
“الحركات الاسلامية من التطرف إلى مزيد من التطرف”، كان هذا عنوانا لبحث أنجزته خلال دراستي الجامعية عام 1999، استعرضت فيه أبرز التيارات الفكرية الإسلامية وتنظيمات الاسلام السياسي، بدءا من رواد الإصلاح الإسلامي “جمال الدين الأفغاني، ومحمد رشيد رضا، ومحمد عبدة، وعبد الرحمن الكواكبي” في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مرورا بولادة حركة الإخوان المسلمين في مصر على يد مؤسسها حسن البنا، وصولا إلى حركات الإسلام المتطرفة في عهد السادات.
البحث كان محاولة لإستعراض أبرز التغيرات التي طرأت على واقع التيارات الإسلامية ونمط تفكيرها، وتحديدا ما يتعلق بالشق السياسي منها، وتوالد تلك الحركات والتنظيمات الاسلامية، على مدار عقود طويلة، ومدى تأثرها وابتعادها عن أفكار الاصلاحيين الأوائل، والإرتكاز في مرحلة لاحقة على مفكرين صنفوا المجتمعات إلى قسمين “مؤمن وكافر”، ومجتمعات النور والظلام، من أمثال: أبو أعلى المودودي، وسيد قطب صاحب كتاب “معالم في الطريق” الذي أعدم في عهد الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وكان لافتا خلال قراءة مشهد التنظيمات الإسلامية التي انبثقت في حقبة الرئيس المصري الراحل السادات، الذي أطلق يدها في الجامعات المصرية في سبعينيات القرن الماضي، لضرب خصومه السياسيين من قوميين ناصريين ويساريين، أنها أخذت منحى أكثر تطرفا وتكفيرا لخصومها ولعامة المجتمع، كما تنظيم “التكفير والهجرة” الذي كفر المجتمع والدولة، وصولا لإغتيال السادات، على يد ذلك التنظيم، بعد توقيعه لاتفاقية كامب ديفيد مع “الكيان الصهيوني”.
إن الملاحظ أن توالد حركات الاسلام السياسي، وتحديدا المتطرفة منها، لا يقف عند مرحلة معينة حتى لو تفككت وانهارت الحركة الأم، سواء عبر مقتل زعيمها أو تعرضها لهزيمة عسكرية وأمنية، وإنما تبقى أفكارها حاضرة، وتذهب لمدى أبعد في التكفير عبر انبثاق حركات أخرى من رحمها أكثر تشددا وإجراما في التعامل مع الآخرين والمختلفين عنها، فحركات التكفير التي تولدت بالسبعينيات، أنتجت بفترة لاحقة تنظيم القاعدة، الذي لم ينته بموت زعيمه أسامة بن لادن، وإنما رأينا خلال السنوات الماضية كيف ولد تنظيم “داعش” الأكثر تطرفا وسفكا للدماء بطريقة عنيفة وبوتيرة عالية.
ورغم الجدل الدائر منذ فجر الأحد حول مقتل زعيم “داعش” ابو بكر البغدادي بعملية عسكرية أمريكية في “إدلب” شمال سوريا، ومدى تأثير ذلك على بنية التنظيم وانهياره من الداخل، إلا أن المتابعين لصيرورة حركة التنظيمات المتطرفة، يدركون تماما أن موت الزعيم لا يعني بالضرورة انتهاء الفكرة،فصحيح أنه من الممكن أن يلعب مقتل البغدادي دورا في زعزعة صفوف داعش من الداخل، وربما ضعفه، لكن الأخطر هو بقاء تلك الفكرة، واستنساخ التجربة وتوالدها بشكل أكثر خطورة وتطرفا في وقت لاحق.
وصحيح أن تنظيم داعش تلقى ضربات موجعة خلال السنتين الماضيتين، في العراق وسوريا وخسارته لمعظم الأراضي التي سيطر عليها في كلا البلدين، منذ ظهوره عام 2013، لكن ذلك لا يعني بتاتا انتهاء خطر التنظيم، الذي بايعته الكثير من الحركات الاسلامية المتشددة في آسيا وافريقيا، وتسير على نهجه في التفكير والتكفير، وقتل كل من يختلف معها باسم الدين أو العقيدة والمذهب.
في سوريا لاحظنا مثلا كيف ظهر تنظيم حراس الدين شمال سوريا، الذي انبثق عن جبهة النصرة الذراع العسكري لتنظيم القاعدة في سوريا، و يحمل أفكارا أكثر تشددا منها، لدرجة أنه كفر قيادات من “النصرة” التي رضيت بالهدنة في “إدلب”، ورأينا الدموية في الاقتتال بين الفصائل الاسلامية المتشددة في إدلب، وعمليات الإغتيال المتبادلة بينها، والتي راح ضحيتها مجموعة كبيرة من المتشددين، وتبادل الاتهامات بين تلك التنظيمات حول تسريب المعلومات للقوات الأميركية لاغتيال وضرب القادة “المتشددين” وتجمعاتهم.
إن الخلاص الحقيقي من كل تلك التنظيمات المتطرفة،لا يكون عبر العمليات العسكرية بالدرجة الأولى، وإنما من خلال قراءات نقدية وموضوعية لكل كتب التراث التي ينهل منها المتطرفون أفكارهم، وتفكيك “العقل الديني” من الداخل، وصولا لقراءة الأحداث والواقع بروح العصر، مع ضرورة الخلاص من الاستعمار الغربي بكل أشكاله العسكرية والاقتصادية، والذي يعد رافعة لتلك التنظيمات، وأرضية خصبها لوجودها، وإيجاد تربة خصبة من الحريات الفكرية والدينية داخل مجتمعاتنا، وإحداث تنمية حقيقية على كل المستويات “فكريا واقتصاديا”، وبغير ذلك سنبقى نعاني ونعاني، من حركات التطرف والأفكار التكفيرية والاقصائية، والغرق في دوامة العنف والدماء لأجيال قادمة.