دمشق: “عروس الشرق” تستعيد فتنتها.. وعبق الياسمين ينتصر على رائحة الموت

كرم الإخبارية – كتب: وسام نصر الله

“لن أرحل للمنافي للبعيدة، وسأبقى هنا رغم كل الظروف الصعبة والقاسية التي عشناها خلال سنوات الحرب” بهذه الكلمات يختزل سائق “تاكسي” دمشقي، حكاية ملايين السوريين الذين رفضوا مغادرة ارضهم وبلادهم، رغم الدمار والخراب ورائحة الموت التي كانت تطاردهم في كل زقاق وشارع وحتى داخل بيوتهم ودور العبادة.

السائق الخمسيني الذي كنت أنصت إليه بإهتمام شديد، وهو يخترق شوارع دمشق بسيارته، انطلاقا من ساحة المرجة مرروا من أمام سوق الحميدية الشهير، وحريقة والميدان، والأحياء القديمة التي ما تزال تحتفظ ببريقها وألقها وعبق الماضي ، يقول: “بالرغم من خسارتي “للتاكسي” الذي كنت أمتلكه، خلال الحرب، واضطراري للعمل أجيرا كسائق على سيارة لا أمتلكها، إلا أنني أرفض فكرة الرحيل أو الهجرة من دمشق، المدينة التي ولدت بها ولا أستطيع أن أحيا بعيدا عنها”.

ويضيف أبو زيد، بتلقائية وعفوية، وهو يؤشر بيده إلى مقبرة تقع قرب الطريق: “هذه مقبر العائلة، فهنا مدفون والدي ووالدتي وعدد من الأقارب، وبرغم كل العروض التي كنت أتلقاها من الأقارب الذين يعيشون في الخارج للسفر والبحث عن حياة أكثر ثراء، إلا أن هذه الفكرة كانت “تطير من رأسي” على الفور، كلما تذكرت الأحياء التي عشت بها وكل هذه الأمكنة.. فأنا ولدت هنا ولن أموت إلا هنا”.

dam-ham9.jpg

أقدم عاصمة في التاريخ

وتعد دمشق التي تلقب بالفيحاء وعاصمة الياسمين، والتي وصفها الشاعر الراحل نزار قباني في قصائده ب”عروس الشرق”، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، فتاريخ المدينة  غير منقطع منذ أحد عشر ألف عام تقريبًا ، كما انها اعتبرت عام 2010 واحدة من أفضل المقاصد السياحية في العالم، قبل اندلاع الأزمة السورية منذ 2011.

كثر من السوريين الذين كنت ألتقيهم خلال رحلتي إلى دمشق التي امتدت لعدة ايام، كانوا يؤكدون على نفس فكرة “أبو زيد” أنهم لن يغادروا وطنهم الذي يعشقونه رغم الظروف القاسية التي مروا بها ورائحة الموت، والقذائف التي كانوا يتعرضون لها من قبل “الإرهابيين”، وتساءل أحدهم بطريقة استنكارية وبتهكم ساخرا من فكرة الهجرة: “نهاجر من وطننا، ونتركه لمن؟!”، ويتابع: “باقون هنا مع بردى وشجر الياسمين والنارنج”.

“أم النور” سيدة أربعينية طالتها أهوال الحرب وفقدت بيتها في حي “جوبر” الدمشقي الذي شهد معارك طاحنة على مدار سنوات قبل فرض الجيش السوري سيطرته عليه وطرد المسلحين منه ، واضطرت لمغادرته، والسكن في منطقة أكثر أمانا، تقول: “خسرنا المنزل، ولكن الأهم أن العائلة بقيت بخير، ومع الزمن نستطيع أن نعوض تلك الخسارة”، مضيفة: “البيت بتعوض، لكن الانسان ما بتعوض ان راح”

dam-ham1.jpg

دمشق القديمة

التنقل والتجول في أحياء دمشق القديمة وأسواقها وأزقتها، له جماليات خاصة يعشقها الكثير من السوريين والزوار على مختلف جنسياتهم ودولهم، فرغم الحرب بقيت تلك الأحياء ببيوتها وأسواقها وتراثها القديم  محافظة على معالمها، وحاضرة بكل دهشتها وبهائها، فخلال تجوالي بها لساعات طويلة  مشيا على الأقدام دون كلل أو ملل، مخترقا أحياء ساروجة والقيمرية وباب توما والأمين وسريجة وباب شرقي، مرورا بسوق الحميدية والمسجد الأموي وقصر العظم، وغيرها من المراقد الدينية والمساجد والكنائس التاريخية والأسواق القديمة، كانت الدهشة حاضرة من روعة كل تلك الأمكنة، ونبض الحياة فيها، واكتظاظ المتسوقين والزائرين فيها، وكأنها ترسم لوحة كبيرة لصمودها واصرارها على الحياة رغم أهوال الحرب .

في دمشق القديمة تصيبك الدهشة دائما، من كل شيء، ورغم الحصار الذي يعيشه الشعب السوري منذ أكثر من 8 سنوات، إلا أنك تجد كل شيء في أسواقها من مواد تموينية وخضار وفواكه، وملابس ومختلف المواد الأساسية وحتى الكمالية منها.

dam-ham2.jpg

معرض دمشق الدولي

وتصادف أن تم افتتاح معرض دمشق الدولي خلال تواجدي في العاصمة السورية، وكان الذهاب لحضور فعالياته، التي شهدت زحفا هائلا من قبل عشرات آلاف العائلات السورية، التي كانت تأتي من كل مناطق العاصمة القريبة والبعيدة، وحتى المحافظات، للمشاركة بفعالياته اليومية والتي كانت تمتد لساعات متأخرة من الليل، مع قدرة هائلة على حفظ الأمن والهدوء، دون تسجيل حوادث تذكر لتعكير صفو الامن أو أي محاولة للاعتداء على ضيوف ورواد المعرض.

dam-ham5.jpg

وفي كل ليلة كانت تزدحم الطرقات المؤدية إلى المعرض ذهابا وإيابا، لدرجة أن وسائل النقل العامة والخاصة لا تكاد تكفي لنقل زوار المعرض في آخر الليل إلى مناطقهم، مما يعتبر ذلك مؤشرا على نجاح المعرض وفعالياته، وعودة الهدوء والأمن للعاصمة السورية بكل ضواحيها القريبة والبعيدة، خاصة وأن شارع المطار يفصل بين الغوطتين الشرقية والغربية، والتي شهدت على مدار سنوات الكثير من المعارك الضارية، قبل قدرة الجيش على بسط سيطرته على كل تلك المناطق وتأمينها بشكل كامل

dam-ham6.jpg

جرمانا

وفي حي جرمانا الذي يبعد بالسيارة 25 دقيقة عن قلب دمشق باتجاه الجنوب، ينسج السوريون في ذلك “الحي” من مختلف الطوائف والمذاهب والأديان والأعراق، حالة “جامعة” تكرس الهوية السورية العابرة لكل تلك الهويات الفرعية ، التي تذوب لصالح الهوية الأكبر “سوريا”، فهناك ترى المجتمع السوري بكل تجلياته وتفاصيله، ومختلف تشابكاته وتعقيداته، ولذلك كان الاستهداف الشرس من قبل “المسلحين لذاك الحي  الكبير “المدينة”، والذي لجأ إليه مئات الآلاف من مختلف المحافظات السورية طلبا للأمن بعد سقوط مناطقهم بيد جبهة النصرة “القاعدة”  وتنظيم داعش والميليشيات المسلحة.

ويصف أصدقاء من أبناء “جرمانا” امتد السهر معهم حتى ساعات الفجر الأولى، كيف كان حالهم مع اشتداد المواجهات واقترابها من مناطقهم، وغزارة سقوط قذائف الموت اليومية على الأسواق والبيوت والطرقات، من قبل التنظيمات المتشددة والارهابية، ومقتل عدد كبير من المدنيين الآمنين، وتسطير المنطقة حالة من الصمود، كسرت شوكة كل الهجمات التي تعرضت لها، فيقولون: “عانينا قساوة المعارك، والمحاولات المستميتة للسيطرة على منطقتنا، كمفتاح لإسقاط  عمق دمشق، وضرب التنوع في الهوية السورية، لكن صمود الأهالي واصرارهم على المقاومة مع الجيش، أفشل كل المخططات للسيطرة على “جرمانا”.”

في جرمانا الحي الممتد على مساحة واسعة، كان دفء الناس حاضرا بشكل لافت، فهم متحابون متجاورون، وترى الكثير من العائلات تجلس أمام منازلها في الطرقات والأزقة، وكأن تلك الأحياء تتحول لبيت كبير تجمع ساكنيها على الألفة والحب، ولا يشعر الزائر أنه غريب بينهم، بل هناك قدرة مذهلة على الاندماج في المكان والتأقلم معه سريعا.

درعا

قصص كثيرة من صمود السوريين داخل وطنهم صادفتها خلال تجوالي في سوريا، والتعبير عن اعتزازهم ببلدهم وعدم التخلي عنها، فخلال رحلة العودة إلى دمشق من زيارة قمت بها لمدينة درعا –100 كم جنوب دمشق-، تصادف أن جلس بجانبي في سيارة الأجرة شاب عشريني ودود يرتدي اللباس العسكري للجيش السوري، وكانت الابتسامة تعلو وجهه بشكل عفوي، فتبادلنا أطراف الحديث والطريق يمضي بنا عبر سهول حوران الممتدة من الحدود الاردنية وصولا إلى العاصمة السورية، مؤكدا اعتزازه بوطنه وخدمة جيش بلده، بقوله : “أنا متطوع في الجيش، وبرغم أن والدتي تحمل جنسية أجنبية ووالدي يقيم بإحدى البلدان العربية، وقدرتي على الهجرة والعمل بأجر مغر وعال، إلا أنني رفضت فكرة السفر والهجرة خارج الوطن، لإنني لا استطيع أن أتنفس غير هواء الشام التي أحب وأهوى”، ويتابع: “نعيش هنا ونموت هنا”.

المثير في الرحلة إلى درعا التي منها انطلقت شرارة الأحداث في سوريا، والتي كان جزء منها تحت سيطرة “النصرة” والميليشيات المسلحة، لسنوات طويلة قبل فرض الجيش السوري سيطرته عليها بالقوة والمصالحات، حالة الأمن والهدوء التي تسود معظم مناطق المحافظة، وسلاسة الإجراءات على الحواجز العسكرية للجيش، والتنقل داخل المدينة بحرية بعيدا عن حالة الخوف والذعر، وبدء عودة الحياة إلى كثير من الأحياء والأسواق والمحال التجارية.

الرحلة لم تقتصر على مناطق دمشق ودرعا بل شملت الوصول إلى الحدود مع لبنان، والسفر إليها برا ومن ثم العودة إلى دمشق مرة أخرى، حيث كان الطريق آمنا، كدلالة أخرى على مدى حالة الاستقرار والهدوء التي تعيشها المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة السورية، والأمن على الطرقات الداخلية والخارجية، حتى أن الحواجز الأمنية والعسكرية التي تمر عنها، تكون الاجراءات عليها روتينية وسلسة، بعيدا عن أي تعقيدات، كما تروج بعض وسائل الإعلام الخارجية، بل إن السوريين يتفهمون وجود تلك الحواجز وطبيعة الإجراءات المتخذة، خوفا من حدوث اي اختراقات من قبل الخلايا الإرهابية ومحاولة شن هجمات أو تفجيرات في الأسواق والأماكن العامة.

dam-ham7.jpg

dam-ham.jpg

زر الذهاب إلى الأعلى