في “تفكيك” تحولات الجولاني وهيئة تحرير الشام: قراءة أخرى
د. محمد أبو رمان*
تحولات حقيقية أم خداع!
أحد الاسئلة الرئيسة تتمثل اليوم في سورية هو إلى اي مدى يمكن اعتبار تحولات أبي محمد الجولاني (أحمد حسين الشرع حالياً) وهيئة تحرير الشام على صعيد الخطاب والأيديولوجية والعلاقة مع الجهادية العالمية (القاعدة) والاقليمية (داعش) جوهرية وحقيقية او استراتيجية وليست تكتيكية ؟! هل هنالك خطر أن يكون ذلك خداعا للداخل والخارج حول هويته الأيديولوجية إلى أن يتمكن من السلطة؟ وربما هذا السؤال يذكرنا بتساؤل آخر سبق طرحه على صعيد جماعة الاخوان في الأوساط السياسية والداخلية والخارجية أيضا؛ عندما أعلن التنظيم في العديد من الدول التخلي الكامل عن “الأفكار القطبية” والقبول بالدولة الديمقراطية؟ لكن السياق هذه المرة مختلف كثيرا؛ فنحن نتحدث عمليا هنا عن تنظيم ولد من رحم الجهادية العالمية التي قامت أيديولوجيته على خط فكري صلب يفترض أنّه اكثر وضوحا بهذه الخصومة مع التيارات السياسية الاخرى ومع قيم الديمقراطية والوطنية كما هي عليه الحال بالنسبة لجماعة الاخوان المسلمين
إذا تجاوزنا المنظور الفكري – السياسي الذي لا يرى ما يحدث أكثر من “صناعة” غربية- أميركية- تركية وفي الصورة الجديدة لأحمد الشرع بربطة العنق الخضراء والبدلة (الإفرنجية او التركية) سوى شخصية تم تحضيرها وإعدادها خارجيا؛ وبدلاً من ذلك حاولنا مراجعة وتفكيك تلك التحولات من منظور نفسي- اجتماعي وثقافي؛ أي إذا تجاوزنا الهالة الايديولوجية لهذه التنظيمات والصورة الصلبة الايديولوجية التي تتبدى عليها؛ وبحثنا عن السياقات ودورها في صناعة الصورة والحركة؛ فإن فهم تغير السرديات الصانعة للتنظيمات قد يعطينا مساحة اخرى لقراءة تلك التحولات ..
التجربة والأيديولوجيا
البداية من التجربة الشخصية لأحمد الشرع ، مؤسس الجبهة وقائد التنظيم منذ التأسيس إلى اليوم من جهة؛ وفهم بنية التنظيم من جهة اخرى .. أحمد الشرع، وفق ما بات معروفاً عنه، هو طالب إعلام في الجامعة؛ شاب متحمس متدين ينتمي لعائلة ليس لها ماض في العمل الاسلامي او المتدين ؛ بل ان والده حسين هو مهندس نفط من الجولان كان ينتمي سابقا إلى الأفكار القومية ولديه ارتباط وجداني وسياسي قوي بقضية الجولان وفلسطين، خرج من سورية بعد أن اعتُقل لمرات عدة، حاطّاً رحاله في شركة نفطية ومنشغلاً في بحوث اقتصادية وسياسية.
في العام 1982 وُلد أحمد، وعاد والداه إلى دمشق وعمره 7 أعوام، وقد فتح والده بقاله في حيّ المزّة في دمشق، وعندما وصل أحمد لسن الثامنة عشر، وقد بدأت رحلة التدين قبلها بشهور قليلة، حدثت انتفاضة الأقصى في العام ٢٠٠٠ وكان لها تأثير نفسي وعاطفي كبير على الشاب الصغير ، كما يذكر هو لاحقاً؛ وبعدها بأعوام كان هنالك تحضير أميركي لغزو العراق ومع بروز شخصية ابو القعقاع (محمود قولا أغاسي) الذي كان يحرض السوريين والعرب على الجهاد في العراق، بدعم من الحكومة السورية (التي كانت تسعى إلى إفشال المشروع الأميركي في بغداد خشية من انتقاله إلى دمشق)، تأثر به الشاب وكان يحضر خطبه، وكغيره من الاف الشباب العرب أخذته الحمية والتحق بفكرة الجهاد في العراق، وهناك ما لبث ان اعتقل وسجن في سجن بوكا لسنين عديدة كانت بمثابة محطة جديدة من التحول في حياته ؛ فقد كان في مهجع واحد مع الجهاديين (وفترة السجون تستحق ان تكون حقلا بحثيا كاملا؛ لما لها من تأثير كبير في ديناميكيات السياسة العربية في العديد من الدول)؛ خرج من السجن وله سمعة جيدة في اوساط تنظيم الدولة الاسلامية في العراق ويعتبر قائداً ميدانيا في التنظيم ( الذي يمثل امتدادا لفكر ابي مصعب الزرقاوي الاردني الذي أسسه غداة الاحتلال الاميركي للعراق).
وفي العام ٢٠١١ أقنع أبو محمد الجولاني زعيم الدولة الإسلامية في العراق، ابا بكر البغدادي، بالالتحاق بالعمل المسلح في سورية لتأسيس نواة للتنظيم هناك؛ وقد بدأ بعدد محدود من المقاتلين، لكن خلال عام أصبح يضم الاف السوريين والأردنيين والعرب دون أن يعلن عن علاقته بالبغدادي وتنظيمه. ولما أعلن البغدادي ضم تنظيمه إلى ما بات يعرف بالدولة الاسلامية في العراق والشام (قبل إعلان الخلافة) في العام ٢٠١٣ رفض الجولاني ذلك واضطر لإعلان بيعته للظواهري والقاعدة الام؛ ولم يقتصر الأمر على خلافات فكرية بل خاص هو وجبهته قتالا عنيفا مع داعش؛ ثم بعد أعوام قليلة أعلن عن انشقاقه عن القاعدة والتأكيد على محلية التنظيم وسورنته أيديولوجيا ثم تنظيميا عندما بدأ يتموضع في إدلب وانفصلت عنه كثير من العناصر القادمة من الخارج ودخل في صدام فكري مع القاعدة التي رعت انشقاق تنظيم حراس الدين عنه، الذي كان ذات تكوين عربي، وبخاصة من الاف الأردنيين الذين ذهبوا للقتال في سورية ونسبة كبيرة منهم إما انشقت بداية وانضمت إلى داعش أو لاحقا عبر حراس الدين عندما انفصل الجولاني عن الظواهري والقاعدة.
هنا بدأت تظهر الصورة الجديدة للتنظيم هيئة تحرير الشام بطبيعة سورية ومحاولة تجنب الصدام مع الغرب ؛ والتاكيد على هدف وحيد هو إسقاط نظام بشار الاسد ؛ ..
السردية والسياق
في مقابلته مع فضائية البي بي سي -بعد الإطاحة بنظام الاسد والتحول إلى أقوى قائد في سورية وعودته إلى اسمه الاول احمد الشرع وظهوره بالبدلة- حاول الشرع تعريف المرحلة السابقة لمسيرته الفكرية والسياسية بوصفها صفحة وطويت، وأنها كانت نتيجة لظروف معينة وسياقات معينة جعلته ينتمي اليها، لكن قناعاته اليوم باتت واضحة بضرورة إقامة نظام سياسي جديد في سوريا يقوم على احترام التعددية العرقية والمذهبية والمجتمعية؛ ومن يتابع سيرته وتحول سرديته يجد انها ليست مفاجئة او ابنة اللحظتين هي متدرجة ومرتبطة بسياقات سياسية ونفسية وتنظيمية (ويمكن هنا العودة إلى أطروحة الباحث الشاب في مركز عمران، فاضل خانجي، لنيل درجة الماجستير من جامعة مرمرة التركية عن تحولات السردية للفاعلين ما دون الدول؛ مع أخذ نموذج هيئة تحرير الشام)، فقد بدأت هذه التحولات مبكراً ووصلت إلى المرحلة راهنة؛ ولم تكن ذات طابع فردي بل تنظيمي؛ فالهيئة او جبهة النصرة سابقا ولدت بهوية مزدوجة وربما (كما اشرت مع الصديق حسن ابو هنية في كتابنا حراس الدين : صعود القاعدة وافولها في المشرق الغربي ) مرتبطة بالمراجعات التي كان يجريها زعيم تنظيم القاعدة حينها مع بعض المقربين (التي كشف عنها بعد مقتل ابن لادن وعرفت بوثائق أيوت أباد)؛ وتجنب التنظيم الإعلان عن هويته حتى كشفها البغدادي في خطابه.
بالعودة إلى التنظيم وبنينه البشرية؛ فأغلبها تشكل من السوريين حديثي عهد بالقتال والأردنيين المتطوعين بأعداد كبيرة ومن العرب؛ صحيح أن هنالك نخبة كانت مرتبطة بالقاعدة والسلفية الجهادية، لكن الغالبية كانت رخوة وجديدة على هذا التوجه ودفعت اليه جراء السياقات التي ولدت مع الحرب الداخلية في سورية؛ وبمراجعة سيرة مئات الأردنيين الذين انضموا إلى جبهة النصرة في البداية فلم يكن لهم ماضٍ أو سجل في الحركات الجهادية، بل أخذهم الحماس والشباب للانضمام إلى القتال في سورية، وكانت الجبهة هي الجهة الرئيسية القادرة على استقبال المتطوعين الجدد، مما أدى إلى تضخمها بسرعة قياسية.
لكن ومع مرور الوقت اتجه التنظيم اكثر نحو الحالة السورية وفك الارتباط ايديولوجيا وتنظيميا بالقاعدة والجهادية العالمية؛ وبدأت تصعد المجموعات السورية؛ بخاصة عبد الرحيم عطون المنظر الأيديولوجي للتنظيم وتم تحجيم بدرجة شبه كاملة التأثير الخارجي الجهادي؛ والتخلص منه، لذلك ليس من المبالغة القول اليوم بأنّ الأغلبية المطلقة من بنية التنظيم هي سورية، وغالبيتهم ممن انضموا إلى التنظيم بعد القتال في سورية، مما يعني أنّ البنية الأيديولوجية الجهادية ذات طابع رخوي ومرتبط بالسياقات والتطورات هناك.
المرحلة القادمة؛ إلى أين تتجه الهيئة؟!
هنالك ما يعرف بالجيل السياسي؛ الذي يولد مع حدث كبير يلقي بظلاله على الحالة النفسية والذهنية لهذا الجيل؛ وبالعودة إلى تجربة الهيئة وزعيمها فإن التحولات وليدة والجانب الأيديولوجي ليس بنيانا حجريا لا يقبل الهدم او التغيير؛ بل على النقيض من ذلك هو عجينة تتكيف مع السياقات وتاخذ اتجاهات يمينا ويسارا بحسب الظروف والملابسات؛ يمكن ان تنحو نحو الراديكالية والتشدد مع مرور الوقت والعكس صحيح؛ وكم من الاشخاص الذين تحولوا وتغيروا وانتقلوا بين أقصى اليمين واليسار نتيجة التجربة والسياقات المحيطة؛ وبالتالي افاق هذه التحولات للشرع وتنظيمه هي مرتبطة بدرجة كبيرة بالتطورات والسياقات القادمة؛ فقد حافظ على صلابة التنظيم لدرجة كبيرة بالرغم من المنعرجات الكبيرة والتحولات الايديولوجية وهو أمر برسم ما سيحدث من تطورات وسياقات قادمة في المشهد السوري وتفاعل المتغيرات الداخلية والخارجية.
*معهد السياسة والمجتمع