رشاد أبو شاور.. رحيل رائد بارز في سرديات الالتزام وأدب المقاومة

رحل رشاد أبو شاور الأديب الفلسطيني الكبير في العاصمة الأردنية عمّان، بعيدا عن قريته الأولى “ذكرين” في قضاء الخليل بفلسطين، التي ولد فيها عام 1942 وعاش حياته مهجرا عنها، باحثا عن الطريق إليها، ولم يكن أمامه منذ عرف طريقه إلى الكتابة غير مذهب “الالتزام” و”أدب المقاومة”، وكتاباته القصصية والروائية ومجمل حياته الثقافية والسياسية مثال عريض على الأخذ الصادق بمفهوم “الالتزام” بأبعاده المتكيفة مع التجربة الفلسطينية.

وقد اندفع أبو شاور إلى الكتابة بغزارة وقوة منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، ولم يتوقف عن العطاء على مدار العقود التالية، حتى رحيله الأخير يوم 28 سبتمبر/أيلول 2024، وقد تنوعت كتاباته بين القصة القصيرة والرواية والمقالة والمسرحية فكتب للكبار وللأطفال كما كتب في الفكر والسياسة والثقافة قريبا من فلسطين مؤمنا بحريتها وتحريرها رغم كل الخيبات.

أما مجموعاته القصصية فأشهرها المجموعات الآتية: ذكرى الأيام الماضية/1970، بيت أخضر ذو سقف قرميدي/1974، الأشجار لا تنمو على الدفاتر/1975، مهر البراري/1977، بيتزا من أجل ذكرى مريم/1981، حكاية الناس والحجارة/1989، الضحك في آخر الليل/1990، الموت غناء/2003. وذلك إضافة إلى رواياته المعروفة مثل: أيام الحرب والموت/1973، والبكاء على صدر الحبيب/1974، والعشاق/1978، والرب لم يسترح في اليوم السابع/1986، وله كتاب: آه يا بيروت/1983 وهو يومياته في حصار بيروت عام 1982. ومن كتبه الأخيرة كتاب: هكذا واجهت كورونا يوميات وحكايات/2022.

ومعظم قصصه تتمركز في محور “المقاومة” والهموم الفلسطينية، ولو أردنا صورة فنية أو قصصية لتشكل العمل الفدائي ومعسكرات الفدائيين في الأردن ولبنان وسوريا لوجدناها في القصص الأولى لرشاد أبو شاور، وفي قصص عدد من معاصريه، وقد رسم في قصصه صورة أمينة لمعسكرات التدريب وعلاقات الفدائيين والمقاتلين وأحلامهم، وعملياتهم الفدائية، وأجواء القصف الذي كانوا يتعرضون له، والملابسات التي أحاطت بالعمل الفدائي. وعندما تقرأ مجموعته الأولى “ذكرى الأيام الماضية” تجده يسترجع أصداء حزيران ويراجع ما حدث، لكنه لا يبالغ في وصف الإحباط ولا يدعو إلى اليأس، وإنما تفرّ قصصه عموما من يأس الهزيمة إلى أمل المقاومة، ولذلك نجد في قصصه شخصيات تمثل الشباب المقاوم الذي يمثل مستقبل التحرير والفداء، وهم يندفعون بلا حصر للانضمام إلى فيالق الفدائيين ومعسكرات التدريب، يغادرون مدارسهم وأعمالهم وبيوتهم المؤقتة، لينتقلوا من خيمة اللجوء إلى خيمة الفدائي وقواعد الثورة، ولا تستوقفهم قلة السلاح أو عدم صلاحيته لخوض حرب مشرفة، لا يفكرون إلا في تحرير فلسطين وفدائها بأرواحهم، يقودهم في ذلك وجدانهم المقاوم وروحهم المندفعة المتفائلة.

شعر و”قصة تعبوية”

القصة القصيرة في مثل هذا الحال أقرب إلى القصة “التعبوية” التي تدعو للمقاومة، وترصد صورا صريحة من اشتباكات الفدائيين مع العدو إذ يعبرون النهر في الأغوار ويقاومون بأرواحهم، غالبا يستشهدون بكل رضا وبهجة كأن الموت أمر اعتيادي ومطلوب. القصة هنا تعتمد اعتمادا صريحا على مادة الواقع المقاوم، وتستخدم الأسماء والأماكن والأحداث بشكل يقترب أحيانا من التسجيلية أو السرد “الوثائقي”.

ويستكمل أبو شاور في المجموعة الثانية “بيت أخضر ذو سقف قرميدي” أجواء المجموعة الأولى، ومن الناحية الفنية نجد أكثر من قصة تنحو إلى التجريب عبر تقنيات التقطيع واللقطات السينمائية، والإفادة من لغة السيناريو ودمجها في العمل القصصي، كما في قصة “قبل سقوط المطر” التي تكثر فيها الملاحظات السينمائية التي تساعد على إحداث النقلات القصصية، وكذلك قصة “طوبى للموتى” التي تجمع بين إحباط أيلول والتقنيات السينمائية في قصة واحدة. كذلك نجد بدايات لتوظيف الموروث الشعبي والأغاني الشعبية وغناء اليرغول وما أشبه ذلك من ظواهر جديدة، تخفف من نبرة الخطاب السياسي لمصلحة مستويات متعددة من الخطاب الجمالي.

أما مجموعة “الأشجار لا تنمو على الدفاتر” فرغم صدورها في زمن قريب من المجموعة السابقة ورغم اشتراكها معها في بعض أجواء الموضوع الفلسطيني، فإنها تميزت بالتوسع والتنوع في الشخصيات والمناخات، ولم تعد محصورة في الفدائيين والمقاومين الذين شكلوا معظم شخصيات المجموعتين الأولى والثانية.

ونجد أيضا محاولة تجريبية لتوظيف التراث العربي والإسلامي عبر استحضار شخصيات تراثية دالة، وغالبا ما يرد هذا التوظيف في محاولات لفهم الحاضر في ضوء تجارب الماضي، وأحيانا كخيار رمزي يعالج الحاضر الذي لا يستطيع القاص محاكمته بصراحة أو وضوح. نجد هذا التوجه في قصة “الذي مات عند قمة الجبل” التي تستعيد احتلال المغول للعالم الإسلامي وتركز على بلاد خوارزم وقائدها أو أميرها جلال الدين شاه ومقاومته للمغول، وقصة “اغتيال أبي الطيب المتنبي” وقصة “عكا والإمبراطور” التي أهداها إلى غسان كنفاني ورسم فيها مشهدا قصصيا مكثفا لهزيمة عكا لنابليون بونابرت وتقهقره عند أسوارها. وهناك قصة أخرى هي قصة “العصي والعيدان” عبر فيها عن فكرة الوحدة العربية، معتمدا على القصة التراثية التي عرض فيها الأب العجوز حزمة العصي على أبنائه، ليحاول كل منهم منفردا أن يكسرها فما استطاعوا ذلك إلا حين تعاونوا فكسروها مجتمعين، كل ذلك ليفهموا المبدأ القائل إن “الوحدة قوة والتفرق ضعف”. هذا النفس التراثي موظف هنا لتوسيع التعبير الفلسطيني وتعميقه ضمن الهدف الثوري الملتزم عند رشاد أبو شاور.

وأما مجموعة “مهر البراري” ففيها خيوط متنوعة ضمن التعبير الفلسطيني، منها الخط المقاوم بالمعنى الصريح، أي القصص المرتبطة بالمقاتلين والفدائيين وأجوائهم في الأردن ولبنان إلى ظهور قصص قصيرة تعكس عالم المثقفين وأجوائهم، من مثل قصص: “العري تحت المطر”، و”هل تحب رحمانوف”. وهناك قصة اجتماعية هي “جريمة شرف” تعكس الموضوع الاجتماعي في المخيم من خلال مقتل الفتاة مريم التي غرّر بها المعلم وتركها لمصيرها الدامي على أيدي إخوتها. وهناك القصة التي سميت المجموعة باسمها “مهر البراري” وهي تعيد استخدام رمز الخيول مما استخدمه غسان كنفاني وغيره بصور وتنويعات شتى، فالمهر هنا عربي أصيل وأما الرجل الذي اشتراه فيريد أن يحوله للحرث والعمل، لكنه يأبى التحول إلى الوظيفة الجديدة، ويتمكن في النهاية من الهرب إلى حريته، لأنه خلق للبرية والحرية والانطلاق. كأنه معادل للمقاتل وللفدائي الذي لم يخلق لأي أعمال غير الحرية والمعركة، وهو لا يتقن غيرها فلا سبيل إلى ترويضه وتعديل سلوكه ليناسب الأحوال الجديدة.

الأدب والتجريب

ولا تظهر نغمة الألم والمراجعة الحزينة نوعا ما إلا مع مجموعة “بيتزا من أجل ذكرى مريم” حيث النظرة المتألمة إلى الماضي، وإذا “فلسطين” لم تتحرر بعد، بل غدت أبعد مما كانت، فما الذي يفعله من حاولوا ذلك وبذلوا من أجله كل شيء؟ الشخصيات هنا تراجع نفسها، وتبتعد تدريجيا عن الروح المتفائلة التي شاعت سابقا، وتنتقل من قصة “الأجوبة” إلى قصة “الأسئلة”.

ونلاحظ ميلا إلى التجريب في قصة “الرعب” من خلال اندماج الكاتب كشخصية في متن القصة باسمه الصريح، كذلك تتميز القصة بروح السخرية السوداء التي تحاول نقد الواقع المختل، وتنتبه إلى أن فيه وجوها مختلة لا يجوز صرف النظر عنها تحت لافتة “المقاومة”. هذه الروح الناقدة والناقمة لم تكن في قصص رشاد أبو شاور الأولى، وإنما توسعت مع انكسار تجربة النضال والمقاومة وانسحابها مع تقدم سنوات الثمانينيات، مترافقا ولاحقا لخروج المقاومة من بيروت عام 1982.

وينهي الكاتب قصة “الرعب” مخاطبا المروي له على نحو من العلاقة التي تشف عن صوت الراوي/الكاتب مستحضرا المروي لهم بوضوح في تجربة جديدة من التعبير القصصي الذي لا يخلو من الاستئناس بأنماط السرد الشفوي؛ “والآن تصبحون على خير، أصوات الرصاص تلعلع، إنني أطفئ النور وأخبئ أوراقي، وأغطي رأسي وجسدي، وأغرق في ظلام ثقيل”.

وكذلك يجرب مجددا باستخدام الحكاية الشعبية في قصة “الضبع والشيخ والرجل الذي.. إلخ”، فمتن القصة فيه أكثر من مستوى: مستوى أول فيه صوت الكاتب/الراوي مخاطبا القراء معلنا أنه سيحدثنا عن حكاية من حكايات جدته فاطمة، وأنه سيقدمها أولا بلغة فاطمة دون تغيير أو تحوير ومرة ثانية بصياغته هو. هذه المقدمة الشارحة جزء من القصة لم يميزها القاص ولم يجعلها شرحا أو إيضاحا، وبعدها يقدم الصياغة الأولى بوصفه مدونا لحكاية فاطمة راوية القصة، ونحن هنا مع قصة أو حكاية شعبية معروفة في الموروث الفلسطيني، والنص الموجود كأنما هو تدوين قريب من الدقة للمنطوق الشفوي باللهجة المحكية وبكل لوازم الحكاية الشعبية.

وبعد أن ينتهي من رواية “فاطمة” يعود صوت القاص للربط والتوضيح، لننتقل بعدها إلى الصياغة الثانية، وتمثل سردا باللغة الفصيحة للحكاية نفسها، فهي هنا قد صيغت من جديد عبر تدخل الكاتب ولغته “المثقفة”، ويتوقف قبل نهاية القصة كأنه في تمرين سردي ممتع، ثم يعود لمناقشة القراء/المروي لهم في النهاية المقترحة. هذا الحضور الطاغي للكاتب في كتابته ظاهرة تجريبية واضحة تسهم في تجديد أساليب القص، وتقترح سبلا جديدة للمتعة السردية، وتنتهي القصة باستعارة خاتمة الحكايات الشعبية أو قفلتها المعتادة: “وطار الطير.. الله يمسيكم بالخير”.

المصدر : الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى