البرغوثي يكتب: الصهيونية “المغيبة” في أوكرانيا
بقلم: الدكتور إياد البرغوثي*
عندما ارجع الرئيس الروسي بوتين اسباب “العملية” العسكرية في اوكرانيا الى أفعال النازية الجديدة هناك، ومن ورائها الامبريالية “الانجلو ساكسونية”، كان ذلك – برأينا – جزءا من الحقيقة، ولم تكن الحقيقة كلها. الجزء الآخر الذي تم “تغييبه” هو الصهيونية في اوكرانيا، ومن ورائها اسرائيل والصهيونية العالمية.
لا أظن أن دور الصهيونية في روسيا واوكرانيا، وقبل ذلك في الاتحاد السوفياتي، يخفى على رئيس ذكي كبوتين، قضى جزءا كبيرا من حياته ضابطا في المخابرات السوفياتية. كما أن اتهامه للنازية في اوكرانيا دون غيرها مسألة مفهومة، فالنازية هي التي قتلت من السوفيات اكثر من عشرين مليونا في الحرب العالمية الثانية، ووصلت جيوشها الى ابواب موسكو، واتهامها من قبل بوتين ضروري لحشد الشعب الروسي خلفه، واظهار مدى جدية التهديد لروسيا، ومدى أحقية الذهاب إلى العمل العسكري لمواجهته، كذلك فإن النازية تستحضر الانتصار السوفياتي (الروسي) عليها وتذكر الروس بالنصر والكرامة القومية.
أما تغييب الصهيونية، أو القفز عن دورها في اوكرانيا، فهو خاضع لاعتبارات عديدة، أهمها برأينا محاولة “تحييد” اسرائيل في هذا الصراع، أو على الأقل، ابقاء الدور الاسرائيلي في دعم اوكرانيا بحده الأدنى. والتقاطعات و”التفاهمات” التي يحرص بوتين على الحفاظ عليها مع إسرائيل في بعض الملفات الدولية وخاصة في سوريا. وكذلك العلاقات أو “بقايا” العلاقات، التي تربط بوتين بالاوليغارشة اليهودية المؤثرة في روسيا نفسها.
“النازية” في أوكرانيا
يطلق وصف النازية الاوكرانية على القوميين الأوكران بزعامة ستيبان بانديرا، الذين سعوا “لتحرير” اوكرانيا من البولنديين ومن السوفيات. ورغم تبني تلك الحركة للأفكار النازية والفاشية واعجابها بهتلر وموسوليني وفرانكو، وتعاونها اثناء الاحتلال النازي الألماني مع القوات المحتلة ضد السوفيات، وارتكابها للكثير من المجازر بحق السوفيات والبولنديين واليهود والأوكران غير الموالين لهم، إلا أنها بدلت تحالفاتها السياسية، وأصبحت بعد هزيمة المانيا النازية أقرب الى “التعاون” مع المخابرات البريطانية والامريكية.
يتشارك اليمين القومي المتطرف في أوكرانيا مع النازية في التعصب القومي، وفي رهاب الأجانب، ومعاداة الشيوعية والروس بمن فيهم اولئك الذين يشكلون جزءا من اوكرانيا نفسها، لكنهم على الأقل في اوكرانيا المعاصرة ليسوا ضد اليهود، ولا ضد المثليين الذين اتسمت النازية التقليدية بمعاداتهم، فالقوميون الاوكرانيون يحاربون تحت قيادة رئيس يهودي، و”متعاطف” مع المثليين، وينتظر الفرصة المناسبة لإقرار القوانين التي تتيح لهم “الزواج” حسب ما تقتضيه “المثل” الليبرالية الجديدة.
الصهيونية في اوكرانيا
على الرغم من التقاطعات الكبيرة بين النازية والصهيونية، من حيث العنصرية المبنية على التفوق العرقي، وكون كلتيهما وليدتا “الحضارة” الغربية، وتشاركهما ولو مصادفة حتى في جنسية مؤسسي الحركتين، حيث هرتسل وهتلر نمساويان، والتشابه الكبير في ميل الحركتين لاستخدام العنف، إلا أن الجرأة في الحديث عن النازية اكثر منها عندما يتعلق الأمر بالصهيونية، فالاختلاف بينهما ليس فقط في كون النازية هزمت في الحرب العالمية الثانية بينما “نجحت” الصهيونية، إنما الفرق أساسا في نوع الضحية عندهما، حيث ضحايا النازية من الاوروبيين، بينما ضحايا الصهيونية من الفلسطينيين والعرب الشرقيين… فالفرق هنا بين النازية والصهيونية ليس في حجم الجرائم المرتكبة، إنما في نوع الضحية التي تمارس عليها تلك الجرائم.
الوجود اليهودي في اوكرانيا قديم جدا، وهو وجود كبير نسبيا اذا ما قورن بروسيا وبقية جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ففي حين كانت نسبة اليهود في المدن الروسية الأساسية كموسكو وسان بطرسبرغ، واليهود عادة سكان مدن، بين ثلاثة الى أربعة بالمئة من السكان، كانت في اوديسا وكييف تصل الى اثني عشر بالمئة.
وتعتبر اوكرانيا مكانا مهما من ناحية دينية لليهود بمدارسهم المختلفة “الحريديم والحسيديم”، حيث تأسست الأخيرة في مدينة اومان الاوكرانية، التي يحج اليهود اليها في راس السنة العبرية لزيارة قبر الحاخام ناخمان، الموجود في تلك المدينة.
كما أن النشاط الصهيوني بين اليهود الاوكرانيين قديم، إن لم يكن الأقدم بين يهود العالم؛ فأول حركة استيطانية صهيونية “احباء صهيون” اسسها موسى ليلنبلوم في مدينة اودسا عام 1882، وهي الحركة التي قامت ببناء مستوطنتي روحوبوت والخضيرة في فلسطين في تسعينات القرن التاسع عشر.
كما أن العديد من زعماء الحركة الصهيونية الأوائل هم من اليهود الاوكران، ويكفي أن نشير هنا الى أسماء مثل جابوتنسكي مؤسس التيار الأكثر يمينية في الحركة الصهيونية، وكذلك مناحيم بيجن الذي كان زعيم عصابة الارغون الصهيونية الأكثر تطرفا وأصبح فيما بعد رئيسا لحكومة اسرائيل، وغولدا مائير رئيسة الحكومة، ومردخاي نمير الذي شغل منصب رئيس بلدية تل ابيب والأمين العام للهستدروت.
في الوقت الراهن، حيث فولودومير زيلنسكي رئيسا لاوكرانيا، وهو اليهودي الذي يحمل الجنسية الاسرائيلية، ويتحدث العبرية، وعاش -كما يقال- في مستوطنة جفعات عوز بالقرب من ام الفحم، وساعدته في الوصول الى الرئاسة، ودعم حملته الانتخابية، وهو الممثل الهزلي الذي لم يعمل بالسياسة مرة واحدة في حياته، الاوليغارشية اليهودية الاوكرانية، وفي مقدمتها الملياردير اليهودي الصهيوني الاوكراني ايغور كولومويسكي رئيس الجالية اليهودية في اوكرانيا، وعضو المجلس الأوروبي للجاليات اليهودية ورئيس ذلك المجلس قبل ذلك.
بالإضافة إلى رئيس الجمهورية زيلنسكي كان رئيس حكومته فلاديمير غروسمان يهوديا ايضا، وكذلك مدير مكتبه أندريه يرماك، اضافة الى العديد من الوزراء والسياسيين المتنفذين في الدولة.
السياسات الصهيونية لحكومة زيلنسكي
أظهر الاعلام الاوكراني وكذلك الغربي، حساسية شديدة تجاه القضايا التي تهم اليهود، اكثر من تلك التي تهم الاوكران أنفسهم، حتى في خضم الحرب التي يفترض أن ضحاياها بالأساس هم الاوكرانيون. ذلك ليس غريبا حيث تملك الاوليغارشية اليهودية الاوكرانية الكثير من التأثير على وسائل الإعلام.
فعلى سبيل المثال، عندما ضرب صاروخ روسي برج الاذاعة والتلفزيون في كييف، ركز الاعلام على أن البرج يقع ليس بعيدا عن مركز “بابين يار” لإحياء ذكرى ضحايا “المحرقة” مما أثار “ذكرى أليمة لدى يهود العالم”. كما ركز الاعلام على الصاروخ الذي سقط “على بعد 160 كم فقط ” من مدينة اومان، وهي المدينة الاوكرانية التي يحج اليها عدد كبير من اليهود في العالم.
من الملفت للنظر هنا، أن الاعلام اعتبر سقوط الصاروخ “بالقرب” من النصب التذكاري للمحرقة، أهم من سقوطه فوق البرج مباشرة. واعتبر أن اثارة ذكرى الألم عند اليهود أهم من الألم نفسه عند الاوكران، كما اعتبر ذلك الاعلام أن أقرب شيء مهم لسقوط الصاروخ هو مدينة اومان، التي تبعد 160 كم عن مكان سقوط الصاروخ.
لقد أظهر زيلنسكي في خطابه في الكنيست الاسرائيلي حقيقية توجهاته “الصهيونية” نحو اسرائيل، فتطرق الى ما يجمعها مع اوكرانيا، فقال “تشترك اسرائيل واوكرانيا في قيم وتحديات الأمر الذي يتطلب تعاونا فعالا بينهما ”
ولكي لا تبقى كلماته عامة، وحتى يكون مفهوما اكثر في اروقة الكنيست، استعان بكلمات غولدا مائير (الاوكرانية) التي قالت “نحن نريد أن نعيش لكن جيراننا يريدوا أن يرونا امواتا”، وذكر الاسرائيليين بأن “هناك الكثير من الاوكرانيين الذين خدموا اسرائيل والآن جاء دوركم… لقد انقذنا اليهود قبل ثمانين عاما وحان الوقت أن تنقذونا”.
لم يكتف زيلنسكي بالدعم الذي قدمته اسرائيل لاوكرانيا، سواء في المجال المدني كمساعدات اقتصادية وطبية (مستشفى ميداني)، أو في المجال العسكري وإن كان عبر دولة ثالثة، ولم يراع “حساسية” الموقف الاسرائيلي تجاه ما يجري في اوكرانيا، نتيجة وجود مئات الاف اليهود الروس والاوكران في اسرائيل، ونتيجة “خصوصية” العلاقة مع روسيا، ولم يقدر كثيرا أن “وعد” بوتين بعدم قتله جاءه عبر نفتالي بينت، رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق، فاستمر في حث اسرائيل على تقديم المزيد لاوكرانيا كما يفعل مع بقية دول الغرب.
الصهيونية واوكرانيا
أهم ما تستثمره اسرائيل في الحرب الدائرة في اوكرانيا، هو هجرة ما تبقى من يهود في البلدين، اوكرانيا وروسيا، وهو ما يجري حاليا. وأوضح ما يريد الغرب من اوكرانيا، هو أن تكون اسرائيل ثانية في أوروبا الشرقية والبلقان، تكون أداة للهيمنة على المنطقة السلافية وخاصة روسيا، كما تفعل اسرائيل بالنسبة للشعوب العربية وشعوب الشرق الأوسط.
ان اصرار حكام اوكرانيا على “تحررها”، لا يعنون به إلا ابتعادها عن الروس والارتماء اكثر في أحضان الغرب، الذي يريد اوكرانيا “صهيونية” اكثر مما يريدها “نازية”، لأنها ستكون اكثر نجاعة في تحقيق أهدافه.
كنت قد نشرت دراسة بعنوان “النشاط الصهيوني في الاتحاد السوفياتي وانعكاسات ذلك على اسرائيل وفلسطين” في مجلة “قضايا”، عدد 5، نوفمبر 1990، التي صدر منها بضعة اعداد في مدينة القدس في ذلك الوقت. بينت فيها الدور الكارثي الذي قامت به الصهيونية هناك، وأدى في النهاية الى انهيار الاتحاد السوفياتي.
من المهم ان ندرك الآن، ويدرك الروس قبلنا وفي مقدمتهم الرئيس بوتين، وأظنه يدرك، أن الدور الصهيوني في روسيا الاتحادية لا يقل “كارثية” عن ذلك الدور الذي لعبته في الاتحاد السوفياتي… بل برأيي المتواضع، فإن عداء الصهيونية لروسيا السلافية الاورثوذكسية، هو أكثر عمقا من عدائها لروسيا الاشتراكية، وذلك لاعتبارات تاريخية معقدة، واستمرار لدور الصهيونية كذراع طويل وفعال للامبريالية الغربية.
أكاديمي فلسطيني