دمشق: حواريّة نقديّة مع المخرج فوّاز حسون والمُمثّل منيار الحيناني في عوالم “وقائع عالم مُمسرح”
الناقد رضوان هلال فلاحة
يخرج العمل بالسؤال الأكثر إرباكاً والأعمق ضراوة مع جدران الواقع التي تبحث عن جدران المسرح الأربعة، لتخلق فضاءً يتّسع لإجابات الواقع في مساحة الخشبة المفتوحة على سؤال جدارها الرابع بأسئلته الكبرى؛ بدايةً من إعادة التعريف للمفاهيم التي نالت منها ضبابية الراهن، وتراكمات الإجابات الخاضعة لمُعطياته الحادّة التي تُعاني من رهاب المُمكن ضمن مُعطيات الواقع.
يرى المخرج فوّاز حسّون أنَّ المسرح نفسه يُصبح سجناً للمُمثّل، والمُمثّلين سجناء للشخصيات، فهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم إلّا مِن خلال الدور الذي يؤدّونه. ويربط فواز حسون ذلك بتداعيات الأسئلة الكبرى، مُشيراً للملاحظات التي تعرّض لها العمل في خِضمّ طرحه لسؤال السلطة والهُويّة، مُؤكّداً أنّه وكادر العمل في المسرحية تركا للمُشاهد أسئلة ليُفكُر فيها، وذلك كسراً للحالة النمطيّة البديهية. وللخروج مِن الضبابيّة انطلقوا مِن مفهوم الذاكرة متى تستطيع أن تقول هذا أنا وتسطيع أن تعرف نفسك، وقد اعتمدوا تكرار فعل الإعدام كمساحة للخروج مِن الواقعيّة وجدل البيئة التي اقتُبِس عنها العمل المسرحي، والتي تمنع تكرار فعل الإعدام في حال فقد المجرم ذاكرته، والعالم العربي ومفهوم العقاب وارتباطه بالنصّ الديني، والتي بدت جليّة عندما ضحك المُجرم إيذاناً بشعوره بالتحرّر. فسؤال الهُويّة والأنا والذاكرة، التي تتأطّر بشكل فجّ وتُفقد، هو جوهر الثيمات والأسئلة التي تمَّ الاشتغال عليها.
إنّ الانتقال بَين ذروتَين للعمل المسرحي “وقائع عالم مُمسرح” هو الفصل الأهمّ في إشكالية الإبداع الموسوم درسيّاً بكسر الجدار الرابع ومُحاولات البناء عليه، والتي لا تتجاوز في كثير مِن الأعمال المسرحية نمطيّة البناء الفنّي المُدعَّمة بابتكارات السينوغرافيا. ولعلّ القيمة المُضافة للعمل هي الأدائيّة العالية للمُمثّل الذي تجاوز ضآلة الإمكانيّات المُتاحة بطاقة التشخيص وبراعة الأداء التي منحت فضاء مُتخيّلها لمساحات السينوغرافيا.
يبدأ العرض المسرحي بالبرولوغ (لم أقتل لم أقتل) التي تنفتح على اللوحة الأولى التي شكّلت تساؤلاً لدى فريق العمل عن عدم موت الجاني؛ أيكون بسبب تمسّكه بالحياة، أم عدم قدرته على الاستسلام… وقد حاول فريق العمل، كما بيّن المُخرج فوّاز حسّون، أن يبني خطَّين لهما علاقة بالشخصيات وماذا تفعل في المسرحية، فكان الحلّ بهروب الشخصية إلى ماذا تفعل على المسرح. ويزيد الالتباس في اللوحة الثالثة، بحيث تتحدّث الشخصيّة بلسان حالها ولسان الدور.
تظهر الذروة الأولى عند محاولة الانتحار التي يُقدِم عليها الجاني بعد فشل عملية الإعدام غير مرّة، أمّا الذروة الثانية في اللوحة الثانية فهي الضحك، وله علاقة بمفهوم الضحك عند نيتشه “الجنون والتمرد”، وفي اللوحة الثالثة يبدأ الجاني بالتذكّر، وهنا تُكسر الجدران.
إنّ بساطة المسرح والديكور بحسب فوّاز حسّون، كانت خياراً لفريق العمل، على الرغم مِن عدم وجود الإمكانيات. فالسينوغراف يعتبرونه قطعة مِن المسرح، والميزانسين له علاقة بحركة الممثل.
والتعويل، بحسب رأيه، كان على المُمثلين ليقوموا بالأدوار خاصّتهم، وبمُحاولة للابتعاد عن الواقعيّة النفسيّة التي يقوم بها مُعظم المُمثّلين في سورية.
وعن أداء المُمثّل وأدواته، يُؤكّد المُمثل المسرحي منيار الحيناني، والذي قام بدور الجلاد في العمل، أنَّ تجريد الخشبة مِن السينوغرافيا يُثقل المُمثل؛ فهي عُكّازة، وذلك يتطلّب جهداً أكبر مِن المُمثل. وأضاف أنَّ “طاقة المُمثّل يجب أنْ تكون مُتجددة حتّى لا يلجأ إلى التكنيك. فالجمهور يؤثّر على أداء المُمثل من خلال الحكم المُسبق عليه، وهنا تبرزمقدرته على التخلّص منها”.
وأوضح كذلك بأنّ “الطاقة الإيجابيّة العالية ربما تُفقِد المُمثل توازنه أيضاً”. فطاقة الجمهور، على حدِّ تعبيره، “تبلع المُمثل” فتُخرجه أنانيّته باتجاه الإضحاك، “مِمّا يُسبّب فلتان المهمة العليا للمُمثل”. وعن دوره وعلاقته بشخصيّة الجلاد و شخصيّة المُمثّل اللتين قام بتأديتهما على المسرح، أكّد على ضرورة الابتعاد عن التزمّت وأهمية المرونة للتكامل بين المُمثّلين، كما أنَّ الاجتهاد في التجريب أثناء البروفات يُطوِّر علاقة التكامل بين المُمثّلين، ويُنتج ثنائيّات متينة في العمل نوعاً ما. وأشار الحيناني إلى أنَّ الجلاد ضحية البيئة وضحية نفسه، وأنَّ الصفات الموجودة عند المُمثّل والجلاد موجودة بحدّ ذاتها عند منيار المُمثّل وهما يتصارعان خارجه بين المحامي والطبيب والجلاد والضحية ومدير السجن، وقد برزت مِن خلال مشاهد صراع المفاهيم حول الأسئلة الكبرى “الوطن، الهُويّة، السلطة، الأنا والذاكرة.. والتي تتمظهر حسب الأيديولوجيات المختلفة لكلِّ شخصية في العمل.
وفي جدل الاقتباس مِن المسرح إلى السينما، ومِن السينما إلى المسرح، لا نقف عند المُشترَك بين الفنَّين لجهة طبيعة الانفتاح بينهما، مع أبويّة المسرح للسينما في مفهوم تطوريّة الإبداع، بقدر وقوفنا على الاقتباس مِن السينما إلى المسرح. فهل المُعطى في ذلك افتقار المادّة النصيّة المُقدَّمة للمسرح مع ما يعتريه من فقر كنتيجة للتهافت باتجاه السينما والتلفزيون، أم ما يُنازع الكاتب المسرحي في بحثه عن الفكرة والفعل، اللذين لربما يتصاحبان مع تجاذبات ما أحدثه عمل سينمائي ما.. فيُشكّل حالة العصف التلاقحي لإبداعٍ ما.. ومع هكذا أعمال، إلى أيِّ حد يغيب أو يتحقّق الشرط الإبداعي على النص، وما هي مديات تحقّق الكيمياء بين “الدراماتوج” والإخراج في تكييف الآراء والأفكار وفلسفة أسئلتها، مع إمكانية الإنتاج المُتاحة، وصولاً إلى احتمالات ومآلات ما سيُقدَّم على الخشبة،
يُحيل المُخرج المسرحي فوّاز حسّون سبب الاقتباس إلى السؤال الجوهري الذي يطرحه الفيلم المُقتبس عنه ” الموت شنقاً ” لناغاسا أوشيما. وهو سؤال الهُويّة والذاكرة، والذي تعالق مع قراءات له كرواية عزيز نيسن “سيرناما وقائع لاحتفال رسمي”، التي تدور أحداثها حول جريمة اغتصاب يقترفها انتقاماً لنفسه.
وعليه، فرؤية المُخرج للمسرحية تمخّضت عن مفاعيل تجاذبات إبداعية وتساؤلات نقدية ومراجعات واقعية للفكرة والفعل، أسّست لاشتغاله على المسرحية، والمسرح كما يرى لديه دائماً محاولات لمسرحة نفسه كي لا يقع في حالة الإيهام وإعادة استجرار نفسه، وأشار إلى أنّ المسرح في فرنسا أخذ عن السينما كثيراً، واعتمد على الشعر والصورة واستخدم البرولوغ.
وتُعتبر مُمارسة الدراماتوج كما أفاد فواز حسون قديمة لكنَّ المُصطلح جديد وإنَّ المعنى الفرنسي هو الأعمق لها “إعادة كتابة حرفية للأشياء” أي البحث عن المعنى فكتبه المخرج برؤية فلسفيّة للنص، وقد ساهم الذكاء والانفتاح على الأشياء مِن قبل الدراماتوج رزان السيد وتوافقهما على عدم صحة تبييء الدراماتوج وبأنَّه ليس محاولة لإيجاد مُعادل موضوعي للأشياء في فتح سواقي الأفكار المُبدعة والحلول المُبتكرة التي تمكنت من تجاوز التباين البيئي الثقافي والمعرفي بين الفيلم المقتبس عنه والعمل المسرحي لانتاج فكرة بمكونها البيئي كمفهوم ثقافي كالتحرر من الذاكرة ذاكرة الجريمة التي أحدثت الموت، ولعل ما قُدم على خشبة المسرح لم يُقدم إجابات مُباشرة إلا أنَّ القصديّة في التماهي مع الجمهور للخروج بالإجابات، وهذه الإجابات ليست آنيّة بل ممتدة لمآلات ما يُصاحب المُتلقي من عصف ذهني ووجداني يجعله في مكاشفة مباشرة مع ذاكرته الجمعيّة