100 سنة على سينما الأبعاد الثلاثية .. من لوس أنجلوس الى جدة!
في العام 1922 تحمّس رجل أمريكي اسمه هاري فيرول، كان يعمل مصورا سينمائيا في زمن الأفلام الصامتة، لكي يخترع طريقة تصوير لفيلم يتحدث عن انتصار الحب على الشر، لم تكن مألوفة من قبل لجمهور السينما، ولن تكون كذلك لعقود تالية: لقد صور فيلمه بتقنية ثلاثية الأبعاد 3D!
نهايتان لفيلم واحد
قد تبعث هذه المعلومة على الدهشة، ثم الغموض، اذ أن قلة نادرة من محبي السينما والمتخصصين في صناعتها يعرفون أن فيلم فيرول “قوة الحب” The Power of love، الذي صور بكاميرتين، وبفلتري ألوان مختلفين: أخضر وأحمر يخاطب كل لون عين مختلفة، كانت أول مغامرة سينمائية تحرّض عصب الدماغ على استيعاب هذين الطيفين اللونين لكي يخلق إحساسا بالتجسيد ثلاثي الأبعاد.
حدث ذلك قبل مائة عام. وعرض الفيلم في فندق “امباسادور” الشهير في لوس أنجلوس. وأتاح أمرا غريبا للجمهور: أن يشاهد واحدة من نهايتين مختلفتين صممتا للفيلم. واحدة تراجيدية والثانية رومانسية، واختيارهما يتم بحسب المنفذ الذي يطل منه المشاهد على الصور في الكاميرا.
قرن كامل مضى، واليوم أصبحنا أكثر علما بتقنية المشاهدة ثلاثية الأبعاد، بل أن التطورات المتسارعة في مجال التكنولوجيا الرقمية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، جعلت هذا المفهوم يتوسع تحت مظلة أشمل بات يطلق عليها بالانجليزية Immersive Artsما يمكن ترجمته حرفيا الى العربية “الفنون الغامرة” (للافتقار الى التعريب المتخصص) وهي باختصار أنواع الفنون، ومن بينها صناعة الأفلام، التي تستخدم تكنولوجيا “الواقع المعزز” VR والهولوغرام وغيرها من أجل انتاج الصورة وبثها.
“قوة الحب”
تغيرت أشياء كثيرة خلال 100 عام لكن “قوة الحب” لا تزال باقية، وبالامكان أن تمسك بسهولة وأنت تتجول داخل أروقة “مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي” الذي حصل في جدة مطلع ديسمبر الجاري محققا نسخته الثانية في تاريخه. وبشكل خاص، تكفي زيارة واحدة الى القاعة المخصصة لعرض أفلام الواقع المعزز، التي شاركت من دول العالم كافة بمخرجين من البرازيل وتايوان وأوروبا، إضافة الى مواهب شابة سعودية، لكي تشعر بهذا الحب الذي مرده الحماسة الكبيرة للمشرفين على هذا البرنامج والتقنيين والمهتمين من الجمهور بخوض تجربة المشاهدة لما يعد “مستقبل صناعة ومشاهدة الأفلام”، ذو التطور السريع: الـ VR.
تقترب البريطانية ليز روزنتال من الجمهور المتردد على المساحة التي تم تقسيمها الى مساحات أصغر ثبت في كل واحدة ما يتوجب من معدات تقنية مثل شاشات وكابلات ومقابس ولكن قبل ذلك كله النظارة التفاعلية التي تثبت حول الجبهة عند منطقة العينين من أجل التمتع بفيلم يشعر مشاهده أنه حضر في قلب موقع التصوير بداخل الأحداث، يكاد يلمس الممثلين أو يتحدث اليهم، كما بوسعه التلفت في كل الاتجاهات بزوايا 360 درجة ليرى عناصر وتفاصيل المشاهد بكل أبعادها. ثمة نوع آخر من تجارب المشاهدة يتيح للمتفرج عبر الضغط على زر الأصبع الذكي المثبت تحت سبابته أن يشارك في التعديل على مسار أحداث الفيلم الذي يشاهده. وحين تقترب ليز تكثر الأسئلة:” هل ستحل هذه الأفلام مكان تلك التي نشاهدها في الصالات العامة او عبر شاشة التلفاز أو الأجهزة؟ هل ستتطور النظارات بسرعة وتصبح أقل وزنا وسعرا أيضا؟ هل نحتاج دوما الى جهاز كومبيوتر إضافة الى النظارة لكي نشاهد فيلما؟ وقبل ذلك كله: متى سنشاهد أفلاما عربية متكاملة وطويلة بتقنية الواقع المعزز؟
تعتبر ليز من مؤسسين مبادرات عالمية كثيرة بين لندن والبندقية ومدن أخرى تحفز انتاج أفلام بتقنية الواقع المعزز، وإضافة الى كونها مبرمجة أفلام ورائدة أعمال، فهي تهتم طوال الوقت بالدعامات الثلاثة لهذا النوع المتنامي من الفنون: التمويل والإنتاج والعرض. ويعتبر البحث عن المواهب واعطاؤها الفرص هدفا رئيسيا لها. وخلال السنوات الماضية، تجاوز عدد أفلام الـ VR التي ساهمت بشكل او بآخر بتحويلها من أفكار على ورق الى صور تشترك أكثر من حاسة بتلقفها ما يقارب 200 مشروعا، لكن حين يأتي دور التحدث عن تجربة “البحر الأحمر السينمائي”، رغم حداثته، في النهوض بهذه الصناعة عربيا وعالميا أيضا، تعتقد ليز أن لديه خصوصية هامة. فقد سبق أن صرحت العام الماضي بأن برنامجه في هذا المجال هو “البرنامج الأقوى مقارنة مع برامج سينما الواقع الافتراضي التي شهدتها المهرجانات الدولية، خارج تصنيف قائمة A”.
مواهب سعودية
وفي الدورة الثانية، تميزت الأفلام التي عرضت في جدة، إضافة الى عددها الجيد، بتنوع فنونها وموضوعاتها وتجارب مشاهدتها. وقبل ذلك بتواجد سعودي، فتي لكن مؤثر، الى جانب انتاجات ساهمت فيها شركات تقنية عملاقة تصور استوديوهاتها الأفلام بجوك 8K، مثل “برنامج إثراء للحلول الإبداعية”، وهو أول برنامج لتطوير أعمال الواقع الافتراضي في المملكة العربية السعودية الذي عرض أربع أفلام هي”التنبّؤ بالمطر”، و”القط العسيري”، و”ومضة”، و”تأملات في الكون”.
عرض الشباب السعودي تجربته جنبا الى جنب مع “يوريديسي” من إخراج سيلين ديمين، وهو استعادة عصرية جدا لفن قديم هو الأوبرا استلهمت قصتها من أسطورة أورفيوس ويوريديس وأيضا فيلم “مملكة النبات مع ديفيد أتينبارا” الوثائقي التفاعلي الذي يستخدم التكنولوجيا التصويرية الحديثة لينقل المشاهد إلى قلب المعارك والدراما الثائرة في منطقة الأشجار المتواضعة.
الفيلم الفائز
وثمة دموع انهمرت من عيون المشاهدين لكنها لم تسقط على أبدانهم بل دارت داخل تجويف النظارة الذكية التي شاهدو عبرها الفيلم التايواني المؤثر “الرجل الذي لم يتمكن من الرحيل” والذي سبق أن حصل على جائزة أفضل تجربة تفاعلية في مهرجان فينيسا السينمائي الدولي من إخراج سينغينغ تشن، وقدمه “البحر الأحمر” بجرأة لافتة. لكن التصفيق كما “جائزة اليُسر الذهبية لأفضل أفلام الواقع الافتراضي” ذهبت الى فيلم “عبر الساحة الرئيسيّة” للمخرج بيدرو هاريس.
يقول هاريس عن فيلمه:” لم تكن تجربة سهلة، فأن تصنع فيلما لا تتوقف فيه في أي لحظة قطع والأحداث كلها تمر بشكل دائري وليس من النقطة ألف الى النقطة ياء، فهذا يعني هيكلة سرد مختلفة تماما. كان لا بد من إجراء الكثير من التجارب والخطأ قبل أن نحقق نتيجة سرد قصة مقبولة بلحد الأدنى. لمرات طويلة، شعر الأشخاص الذين كانوا يجرون هذه الاختبارات التقنية بالضياع، وأسقط في يدهم، وجهدوا لفهم ما يدور حوله كل شيء. كما أن المستويات المتعددة للنص في بعض الأحيان استعصت على فهمي أنا شخصيا، حتى أنني فكرت في الاستسلام، وتحويل العمل الى مجرد فيلم تتم مشاهدته ببعد 360 درجة. لم تتحسن الأمور إلا بعد أن اعتمدنا هيكل فصل صارم لتنظيم المحتوى”.
تقول روزنتال أنه إضافة الى التحدي الذي تطرحه صناعة هذه النوعية من الأفلام على صناع الأفلام أنفسهم، فإن التحدي الثاني الأبرز يكمن عند تجربة المشاهدة نفسها وتحديدا توفر النظارات بوزن أقل وسعر أكثر تهاودا.
لكن بعيدا عن أي صعوبات، فإن لا شيء، ولا أحد، مرشح للوقوف في وجه الطوفان الهادر لصناعة انتاج أفلام الواقع المعزز، في سوق من المتوقع أن يصل حجمه الى 184.66 مليار دولار يحول السنوات الثلاثة المقبلة بحسب التقديرات. ما الضمانة؟ قوة ذلك الحب للمضي قدما التي جعلها قبل 100 سنة هاري فيرول عنوانا لفيلمه!.
البيان