تصفية “القضية”.. تشويه فلسطين..!

علاء الدين أبو زينة

أميركا “تصفي” القضية الفلسطينية. تلغي حق العودة؛ تنهي “الوكالة” وتنزع صفة لاجئ عن نسل المهجرين من فلسطين في 1948. وبذلك، تنقطع آخر صلة لفلسطينيي الشتات بالوطن، مرة وإلى الأبد.
وتستأنف لعبة “التفاوض”، على طور آخر من “فلسطين” تصغر باطراد في اتجاه الصفر، أصغر من فلسطين (242)، من دون المستوطنات وطرق المستوطنات. بانتوستانات، بلا سلاح، ولا سيطرة على الحدود ولا الداخل، ولا سيادة حتى على الملابس الشخصية.
ورد القيادة الفلسطينية على “الضم”، تسول دولة منزوعة السلاح، مع تعديلات في الحدود. نفس العرض المرفوض مسبقا: “وطن” لا يمكن رسم خريطته. عرض هو التنازل المرحلي فقط في سلسلة هازمة للذات من التنازلات في اتجاه تصفية فلسطين. ولا تهم موافقة الفلسطينيين على اجتهادات “القيادة الفلسطينية” العبقرية وما توقع عليه –اسألوا الناس وانظروا الاستطلاعات.
لم يقبل أبناء فلسطين 48 بتمليك مدنهم وقراهم للعدو – وانتزاع مواطنيهم منهم حتى حق المطالبة بالعودة. ولا يقبل الفلسطينيون دولة منزوعة السلاح. أي دولة! ولا يقبلون بالتعاون مع أمن العدو ضد أمنهم. ولا يقبلون بأن يتسول أحد العطف لهم، بهم، وكأنهم لم يضحوا ولم يصبروا ولم يبذلوا الأبناء والأرواح.
ليس الأميركان. تصفية القضية الفلسطينية كانت بالتخلي عن المطالبة بفلسطين فلسطين، من النهر إلى البحر، وكأن المطالبة بالوطن التاريخي عيب عملي أو أخلاقي. كان ذلك قرارا من “القيادة” بإسقاط قضايا الملايين من أصحاب فلسطين 48 بلا مرافعة. وسوف ينظر واحدٌ يعدّ العصي ويقترح أن الفلسطينيين المطالِبين عنيدون وغير واقعيين. ولو سُلبت قريته التي يغني لها المدائح، سنرى كيف يكون “واقعيا” ويُحرق ديوانه – إلا إذا كانت مفردات الكرامة والحرية والحق أصواتا بلا معنى وكثيرة على الواقع.
صُفيت القضية الفلسطينية حين استنكرت “القيادة” حق الفلسطينيين في المقاومة قولا وجردتهم من أدواتها عملا، وتصورت أن الإعلان الباكي عن “شعب مسالم”، أي مستسلم فعليا، سيجلب شيئا في غابة العالم، وكأن المقاومة خطيئة نتطهر منها لنبدو نُساكا مستحقين للأعطيات. وبذلك جردت نفسها من أي إمكانية للحديث بأي نبرة غير الاستكانة، وأهدرت تضحيات الشعب الفلسطيني وخبرته ورأيه في الاشتباك كفرصة وحيدة في صراع وجودي يفرض العدو منطقه. وكما يقول مايكل دوران، الدبلوماسي الأميركي السابق والباحث المؤيد للكيان أن “إسرائيل لن تعيد على طاولة المفاوضات ما كسبته في ساحة المعركة”. أي لا يمكن استعادة شيء بلا مقاومة مؤثرة.
صُفيت القضية بطرد “القيادة” فلسطينيي الشتات من معادلة الصراع – ليس فقط بإهمالهم، وإنما بالتعهد بإبعادهم الأبدي، وبتصريح علني من الرئيس بأنه لا يحق له العيش في “صفد”، معلنا إنهاء مطالبات هؤلاء الملايين بالعيش في بلادهم، بصفة رسمية.
تصفية القضية هي وجود عشرات الفصائل والدكاكين الفئوية، ببرامج ورايات وولاءات للعصبة الضيقة، والزعيم المؤلّه. ولم تنجز “القيادة” الجهد الابتدائي لأي قيادة تقود شعبا: طي الرايات والفئات والحشد حول العلم الوطني، كما تفعل أي أمة في محنة. بل تمسك الفصيل السائد برايته واحتكر القرار، وتجاهل قادته المُطلقون أشواق الناس الذين يُفترض أن يمثلوهم وكانت اجتهاداتهم خيبة كاملة -كل ذلك بلا تفويض: اسألوا الحيثيات، والناس، والاستطلاعات.
تصفية القضية أن يُسلب أحد كل ماله، 1000 دينار مثلا، ثم يقتنع بإعلان أن له ثلاثمائة دينار والباقي حق أصلي حلال زلال للغاصب-لأن شيئا أفضل من لا شيء. ثم ما العيب في مائة دينار؟ وربما ثلاثين؟ أو أي شيء من أجل ألا يبدو الجهد بلا طائل؟ ولو اتبع غريزة الكائنات وتمسك بما هو حق وآمن به، لكان أكرم من التنازل بلا مكسب
أو كرامة. لكن “منَ يهُن…”.
وما القضية؟ مجموع قضايا الفلسطينيين الفردية بالواحِد. وقضية كل واحد أولا بيت أبيه ثم قريته ومدينته. وما القضية؟ فلسطين كمجموع لهذه البيوت والقرى والمدن، وكل تفصيل صغير أثير لصاحبه؟ لكن فلسطينيين -للأسف شوهوا رواية فلسطين، الجغرافيا والتاريخ، وأوصلت سفارة مشورتهم القضية إلى هنا، بلا رواية، ولا بلد. مزقوا بأيديهم دعاوى ومطالبات مواطنيهم الفردية الموثقة، وتنازلوا عما ليس لهم. وقتلوا فلسطين بسيادية مطلقة؛ ببتر أجزائها قطعة قطعة –ومعها المرتبطون بشرايينها الحيوية- حتى لم تعد لها ملامح ولا قابلية للحياة، وأطعموها للكلاب.

زر الذهاب إلى الأعلى