المتغير اللحظي هو الثابت الوحيد في فلسطين!!!
د.عقل صلاح*
هناك قاعدة أساسية تتحكم في الواقع والسياسة الفلسطينية مفادها: الشيء الوحيد الثابت هو المتغير اللحظي. في الأمس القريب كان الرئيس عباس من وجهة نظر حماس غير شرعي، واليوم أصبح الرئيس الفلسطيني، ومن ثم عادت حماس تنادي بعزله طوعًا أو قسرًا. وكانت إيران وسوريا حليفاً استراتيجياً لحماس، واليوم أصبحت كل من قطر وتركيا الحلفاء الجدد ثم عادت حماس تغازل محور.ايران، وكان محمد دحلان عدو حماس اللدود، واليوم أصبح حليف حماس ومرحباً به في غزة حيث ألقى كلمة له في اجتماع المجلس التشريعي بغزة في 27تموز/يوليو2017. ومصر في عهد الرئيس مرسي كانت حاضة لحماس، وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي حاصرت مصر حماس. واعتبرت حماس الواقع في مصر واقع عدائي ووصفت ماحدث في مصر بالانقلاب ومن ثم تحسنت علاقة مصر مع حماس بواسطة دحلان والتقاء مصالح كل من مصر وحماس المحاصرة ودحلان الذي يفتش على موطئ قدم له في فلسطين. في الماضي لم ترد حماس التنازل عن الحكم، ومن ثم أصبحت ترحب بحكومة التوافق الوطني. وبعدها قامت بتشكيل الهيئة الإدارية العليا لإدارة حكمها في القطاع، وكانت الجماعات الجهادية في غزة محاربة من قبل حماس، ومن ثم سمحت حماس لهذه الجماعات بمزاولة بعض النشاطات الجماهيرية. وبعد التقارب الحمساوي المصري أصبحت هذه الجماعات تحت ضربات حماس المتواصلة حيث فجر داعشي نفسه في قوة من كتائب القسام على الحدود المصرية-الفلسطينية في 17آب/أغسطس2017.
فالحالة الفلسطينية فريدة من نوعها، فهناك سلطة قائمة تحت الاحتلال، وحماس تسيطر على القطاع، وحكومة التوافق الوطني تتحكم في الشأن الحياتي الفلسطيني في الضفة، ولا تقوم بواجباتها في غزة، والسلطة اليوم تشارك في حصار غزة وتعاقب حماس من خلال معاقبتها للشعب، ورئيس الحكومة الفلسطينية وأعضاؤها ليسوا من التنظيمات والأحزاب. والرئيس لا يزور القطاع، ولا يتنقل إلا بإذن إسرائيلي، وإسرائيل تتحكم بكل مفردات الحياة في الضفة، والسلطة تنسق أمنيًا مع إسرائيل على الرغم من عدم التزام إسرائيل في السلام المزعوم ومواصلة الاستيطان والقتل والاعتقال والتدمير وسحب صلاحيات السلطة الفلسطينية من خلال التعامل المباشرمن قبل المواطنين الفلسطينيين مع صفحة المنسق الإسرائيلي-الإدارة المدنية الإسرائيلية- على الإنترنت بالإضافة لتكرار حجز إسرائيل لجزء من أموال السلطة.
ففي الواقع الدولي تقطع العلاقات مابين الدول بسبب قيام دولة بالاعتداء على سيادة أو مصالح دولة أخرى، ولكن في فلسطين فرد واحد يستطيع تغير وجهة العلاقة مابين إسرائيل والسلطة من خلال قيام فرد أو عدة أفراد غير منتمين لأي تنظيم فلسطيني بعملية فدائية وعلى عاتقهم الفردي، فتقوم إسرائيل مباشرة بإغلاق المناطق والبطش بالمواطنين الفلسطينيين وتنقلب المنطقة برمتها للتصعيد وأكبر دليل على ذلك عندما أقدم ثلاثة شهداء من أم الفحم من مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 على تنفيذ عملية فدائية انتقامًا لتدنيس المسجد الأقصى، قامت إسرائيل مباشرة بتطبيق سياساتها المبيتة للمسجد الأقصى ونصبت البوابات الإلكترونية والكاميرات الذكية على أبواب المسجد الأقصى، الذي قوبل بالرفض المطلق من قبل المقدسيين وتصاعدت حدة القمع الإسرائيلي بحق المصلين وسقط العديد من الشهداء ومئات الجرحى. هذه العملية وغيرها من عمليات الفردية كالدهس والطعن واطلاق النار هي نتاج سياسات الاحتلال القمعية، وانعدام الأمل في المستقبل، ووصول الشباب لقناعة بأن الاحتلال لايفهم غير لغة القوة والعنف. وهذا ماتجلى في وصية الشاب الأسير عمر عبد الجليل العبد من بلدة كوبر منفذ عملية مستوطنة حلميش شمال غرب مدينة رام الله في 21تموز/يوليو2017 الذي حمل سكينته ودخل المستوطنة وقتل ثلاث مستوطنين وجرح رابع.
وقال العبد في وصيته: “أنا شاب لم يتجاوز عمري العشرين، لي أحلام وطموحات كثيرة، كنت أعلم أنه بعون الله ستتحقق أحلامي، كنت أعشق الحياة لرسم البسمة على وجوه الناس، لكن أي حياة هذه التي تُقتل فيها نساؤنا وشبابنا ظلمًا ويدنس أقصانا مسرى حبيبنا ونحن نائمون”.
وتساءل العبد مستغربا: “أليس من العار علينا الجلوس؟ أنتم يا من سلاحكم صدئ، أنتم يا من تخرجون سلاحكم في المناسبات، ألا تخجلون من أنفسكم؟ هاهم أغلقوا أقصانا فلم يلبي سلاحكم”. مضيفًا بأنه لا يملك سوى سكينا سيلبي به نداء الأقصى في حال عدم استجابة الاحتلال وفتح أبواب الأقصى.
وصرح مصدر أمني إسرائيلي أن منفذ عملية حلميش قال في التحقيقات الأولية معه إنه قرر تنفيذ العملية رداً على الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة في المسجد الأقصى.
ففي السابق كانت منظمة التحرير الفلسطينية من تونس والفصائل الفلسطينية والقيادة الموحدة للانتفاضة الأولى والثانية هم من يقودون الشعب والانتفاضة والثورة وهم من يقومون في بالتخطيط وتنفيذ العمليات الفدائية، ولكن اليوم انقلبت الصورة فالأفراد هم من يقومون بتنفيذ العمليات ضد الاحتلال بدون علم التنظيمات، والشعب يهب وينتفض بدون قيادة وبدون مشاركة التنظيمات بل حتى تبقى التنظيمات متفرجة ولا تفعل شيئًا وعند النصر يتحركون ويبدؤون بإصدار بيانات التبني التي لاتغني ولاتسمن من جوع. وآخر مثال حي على ثورة المقدسيين ووقوفهم في وجه الاحتلال وانتصار إرادتهم على الاحتلال. حتى وصل حد تبنى انتصار المقدسيين للدول العربية التي سارعت لمحاولة قطف ثمار النصر مع العلم أن اجتماع الوزراء العرب في جامعة الدول العربية عقد بعد أسبوعين من هبة الأقصى قبيل ساعات من نصر المقدسيين
كان في الماضي القريب التنسيق الأمني مع إسرائيل مقدس ولكن بعد اعتداء إسرائيل على الأقصى ووضع البوابات الإلكترونية وامعانها في استهداف الأقصى والمقدسيين، اضطرت القيادة الفلسطينية لوقف التنسيق الأمني مؤقتًا لأول مرة في عهد الرئيس عباس، وفي الرابع من آب/أغسطس 2017 تم استئناف التنسيق الأمني حيث نقل الصحفي الإسرائيلي شلومي إلدار عن مصدر أمني إسرائيلي قوله”تم استئناف التنسيق الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين دون الإعلان عن ذلك، ومن الواضح أنه لن يتم الإعلان عن استئنافه وطلب من الأجهزة الأمنية الفلسطينية إبقاء الموضوع طي الكتمان بالكامل حسب قول الصحفي الإسرائيلي.
لقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إزالة البوابات واستبدلها بكاميرات ولكن إصرار المرابطين أجبره على إزالتها وفتح بوابات الأقصى فالفلسطينيين في بداية تموز/يوليو2017 كانوا ضعفاء ومعنوياتهم تحت الصفر ولكن مع نهاية نفس الشهر أصبحت المعنويات والهامات شامخة شموخ الأقصى والمقدسيين وتحول الانكسار إلى نصر.
في الماضي كان التنظيم الواحد في فلسطين قراره موحد ويلزم جميع أعضائه في الضفة وغزة، واليوم أصبح التنظيم تنظيمين أو أكثر ففتح غزة وفتح الضفة وفتح دحلان وفتح الرئيس عباس، وحتى وصل هذا الحال لحركة حماس في غزة بالتحالف مع التيار الاصلاحي الذي يقوده دحلان، وحماس الضفة أيضًا تفتش عن مصالحها من خلال التصالح مع الرئيس عباس وتكلل ذلك من خلال زيارة وفد حمساوي من الضفة للرئيس عباس بظل كل الاجراءات العقابية بحق القطاع من قبل الرئيس عباس. ويمكن أن تقدم حماس الضفة على أكثر من التصالح مع الرئيس عباس بتشكيل إطار سياسي مصلحي اضطراري مؤقت من النخب الحمساوية الليبرالية بالضفة يجيز التحالف مع الرئيس ومرشح لقيادة هذا التيار الدكتور ناصر الشاعر نائب رئيس الوزراء في الحكومة العاشرة، ويمكن أن ينضم له أعضاء المجلس التشريعي والوزراء الحمساويين في الضفة حيث تم عقد اجتماع مع رئيس الوزراء رامي الحمدالله في رام الله في الرابع عشر من آب/اغسطس 2017 وسيكون هذا التيار شبيه بالحالة المغربية بحزب العدالة والتنمية المغربي الذي تعايش مع الملك. وستكون قاعدة هذا التيار التبريرية بأن الرئيس عباس منتخب ويحظى بشرعية لاتتوفر عند شريك حماس في غزة.
حتى موظفي السلطة أصبحوا مقسمين موظفي غزة وموظفي الضفة، والسلطة تعاقب حماس من خلال الخصومات والتقاعد القسري المبكر لموظفيها في غزة. في فلسطين كل لحظة هناك قرار وقد يخالف القرار السابق وقد لايكون هناك قاعدة قانونية ودستورية ومبرر للقرار ولكن الحالة المتغيرة والتطورات والأحداث والمزاجية والفعل وردات الفعل تعكس نفسها بكل قوة على السياسة الفلسطينية التي تتحكم بها إسرائيل والواقع العربي المحيط والقرار الفردي الفلسطيني!!!
في فلسطين إذا كان هناك استقرار أمني – تنسيق أمني وعدم القيام بعمليات ضد إسرائيل – يكون هناك استقرار اقتصادي ومن ثم سياسي. والأمن يتحكم في السياسة، والسياسة تتحكم في الاقتصاد، فإذا كانت إسرائيل والغرب والبعض العربي راضين عن السلطة وعن التنسيق الأمني تكون الأمور مستقرة اقتصاديًا وسياسيًا وتكون السلطة ممثلًا وشريكًا، وإذا انتقدت الاحتلال والاستيطان، أو طالبت العالم بإدانته ومحاكمته في المحاكم الدولية تصبح متهمة تدعم الإرهاب. وحتى وصل الحد بحكومة الاحتلال في القول أن السلطة تحرض على الارهاب وتحمل الرئيس عباس مسؤولية أي عملية فدائية حتى لوكانت فردية واذا لم تقم السلطة والرئيس عباس في استنكار العملية تقوم اسرائيل بمطالبة السلطة باستنكار العملية. وعلى الرغم من أن السلطة تنسق أمنيًا مع الاحتلال وتحارب العمليات الفدائية إلا أن إسرائيل تصر على تحميل السلطة المسؤولية عن العمليات وكل ذلك من أجل ابتزاز السلطة أكثر وإظهارها بأنها تقف بصف الاحتلال وضد الشعب الفلسطيني. فإسرائيل رغم تنسيق السلطة معها أمنيًا إلا أنها لاتقدم للسلطة شيء يذكر لتحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية وحرية الحركة بل تزيد من الاستيطان والقتل والاعتقال اليومي وتلجئ للخصم من أموال السلطة كما تشاء، وفي أكثر من مرة تم تجميد تحويل الأموال. ولقد قامت إسرائيل في اقتطاع نسبة رواتب أسر الشهداء والأسرى في السجون الإسرائيلية وعلى الرغم من أن إسرائيل أجبرت السلطة الفلسطينية على قطع رواتب مايقارب من 277 أسير فلسطيني محرر منهم من أمضى أكثر من عقدين في السجون ومنهم مازال في السجون الاسرائيلية وبعد الضغط والوساطات والتدخل تم الاتفاق في آب/أغسطس2017 على إعادة رواتبهم.
في قوانين التقاعد العادية يحال للمعاش الموظف الذي تجاوز سن الستين بينما في فلسطين يحال للتقاعد المبكر الإجباري الموظف في سن الأربعين أو أقل ويبقى على رأس عمله الشاب في السبعين أو الثمانين والتسعين من العمر وكل قيادات الشعب الفلسطيني أصغرهم سنًا في الستين وأكبرهم في التسعين ومازالوا فوق القانون ليس فقط قانون التقاعد المبكر وإنما قانون التقاعد العادي، إنها قاعدة شاذة عن باقي القوانين المعمول بها في الدول الأخرى.
كل ذلك يدلل على أن القرار الفلسطيني تابع وتتحكم به إسرائيل على جميع الصعد وأي تطور أو فعل فلسطيني حتى لو كان فرديًا، تقوم إسرائيل فورًا في اتخاذ قرارات قاسية في محاسبة الكل الفلسطيني ومن ضمنهم السلطة التي تقوم في الدور المناط بها وبالأخص الدور الأمني، وهذا التغير اللحظي يمس الاقتصاد والسياسة والأمن وكل الأمور الحياتية، وتبدأ العقوبات بالهدم والاغلاقات والحصار والعقاب الجماعي وزيادة حدة البناء الاستيطاني. بينما إذا قام مستوطن وحرق وقتل عائلات فلسطينية بكاملها كما حدث مع عائلة دوابشة في قرية دوما وغيرها يتم اطلاق سراح المستوطن ولاتستطيع السلطة محاكمة الاحتلال والمستوطن خوفًا من تجميد الأموال ومعاقبة السلطة من سحب الامتيازات والحركة للمسؤولين وتهديد السلطة من خلال الإدارة الأمريكية.
مما سبق نخلص بأن الحالة الفلسطينية شاذة عن الحالات الطبيعية التي ينطبق عليها دراسة النظم السياسية المقارنة ولايوجد سياسة فلسطينية وإنما سياسات يضعها الرئيس عباس وترسم لهم من قبل الاحتلال والغرب والعرب. فالسياسة الفلسطينية كما يقال بالعامية “فستق فاضي” سلطة بلا سلطات سيادية فهي سلطة حكم إداري ذاتي تحت الاحتلال والفلسطينيين يضعفون أنفسهم بأنفسهم باستمرار الانقسام لأكثر من عقد مما أدى إلى انعدام الثقة بالتنظيمات والسلطة وفقدان الأمل في المستقبل وتجلى ذلك في العمليات ذات الطابع الفردي وبنسبة الممتنعين عن الاقتراع بالانتخابات المحلية في المزرعة الشرقية 4،99% التي انعقدت 29تموز/يوليو الماضي ومن قبلها انتخابات بلدية نابلس وغيرها الكثير من الشواهد.
*كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.