“هنا واشنطن” بالعربي
بقلم مالك العثامنة
السير على حبل مشدود بين القناعات الشخصية والموضوعية يتطلب الكثير الكثير من التوازن، وهكذا المقال أحيانا، تُقدم فيه عرضا أمام “جمهور” من القراء، و تمشي على الحبل المشدود منذ أول كلمة حتى آخر نقطة، محاولا ضبط توازنك فلا تهتز، أو تقع.
و ها أنا الآن، أحط رحالي من جديد منطلقا من منصة ليست جديدة بل متجددة، وقد جذبني إليها “ألبرتو فرناندز” الرئيس الجديد لشبكة بث الشرق الأوسط الأميركية، في محاولة أؤمن أنها جادة و ثورية.
الحديث عن فرناندز، ليس هنا مقامه، فالشهادة تصبح مجروحة حد التسطيح والتزلف، لكن الحديث عن موقع الحرة برؤية ليبرالية جديدة، هو الأهم هنا، والقصد هنا رؤية إعلامية ليبرالية علمانية بمعنى حقيقي للمفاهيم، لا بمعناها السطحي والمضلل والدارج في العالم العربي، وقد جعلت التجاذبات الشرسة والشديدة في ذلك العالم المختنق بغبار التاريخ والموروثات كثيرا من المصطلحات والمفاهيم فريسة الجهل والغوغائية وشدة التعصب حد الانغلاق على أي فكرة جديدة.
كذلك، لست هنا بصدد إعادة تعريف المصطلحات، فالإنترنت والعم الكبير “غوغل” حفظه الله من كل فيروس، قادران على تقديم خدمة المعلومة بكل لغات البشر الحية، لكن فلنقف قليلا عند تجربة الإعلام غير العربي الناطق بالعربية والبحث عن أسرار نجاحه “غالبا” أمام إعلام جنسيته عربية كما لغته الأم هي العربية!
وقد كان معيار النجاح و قياسه دوما هو المتلقي العربي الذي كان تاريخيا يبحث عن المعلومة والخبر في أثير محمول من الخارج، لا من محيطه المحلي، و منذ الحرب العالمية الثانية نسمع أن إذاعة برلين الناطقة بالعربية و الممثلة للنازي كانت تنافس هيئة الإذاعة البريطانية على كسب مصداقية المستمع العربي الممزق بين حلفاء ومحور، وهو فعليا لا ناقة له ولا جمل في كل تلك الحرب إلا أن حظ الجغرافيا التي يعيش فيها كان سيئا ليصبح هو شاهد زور ثم ضحية مطامع استعمارية.
“بي بي سي” انتصرت دولتها فانتصرت هي، وبقيت لفترة طويلة بدقات ساعة بيغ بن قبل نشراتها الإخبارية مفضلة لدى المستمع العربي، ثم ظهرت إذاعات مثل مونت كارلو في عالم الترفيه، وصوت واشنطن التي كانت تنقل الخبر عبر الأطلسي، وكلها – تلك الإذاعات الناطقة بالعربية – كان يعرفها المستمع العربي ويتلقى منها أينما تواجد أخباره المحلية المكتومة عن النشر والممنوعة عنه.
المفارقة، أنه بعد حروب شرسة مع إسرائيل، كانت تقودها إذاعة صوت العرب صوتيا أكثر من هيئات الأركان العربية على أرض الواقع، فإن الخيبة الصادمة التي تركها التضليل الإعلامي والتزوير في الحقائق، جعلت المستمع العربي لاحقا يبحث عن أخباره العربية من إذاعة إسرائيل الناطقة بالعربية ( مع كل ما يمكن أن تحويه من إعلام موجه و مدروس بذكاء ودهاء).
حتى حفلات أم كلثوم صارت فقرة ثابتة في إذاعة إسرائيل، يضبط عليها المستمع العربي مؤشر الراديو و يضبط ساعته على توقيتها كذلك.
القصة لم تكن تفوقا إعلاميا إسرائيليا، بقدر ما هو فراغ إعلامي عربي لم يجد المستمع “أيام الترانزستور” بديلا له إلا على الأثير القادم من غرب النهر.
التلفزيونات العربية قبل عصر الفضائيات، كانت متفوقة لا بالمحتوى، فالمحتوى ساذج والمشاهد يدرك ذلك، لكنه يدرك أيضا ألا خيارات لديه مهما ارتفع الهوائي على سطح بيته، بالتقاط أكثر من محطته الوطنية أو محطة الدولة الشقيقة المجاورة!
في عصر الفضائيات، انكسر القمقم، وانفلتت قبيلة من العفاريت الفضائية المكبوتة، ولكن تبقى العقدة العربية موجودة حتى مع قصص نجاح معدودة في عالم الفضاء العربي، والعقدة مردها الموروث، والإدارات المحكومة برعب الرقابة والمزاج الأمني، والمزاج السياسي، والجمهور عاوز كدة! فانتهينا بتجربة “الجزيرة” مثلا، وقد ورثت خبرة طاقم “بي بي سي” بصدفة سوء تقدير سعودية لتنتهي كقناة موجهة باسم تيار إسلامي، وتواجهها قنوات إخبارية تم تأسيسها لا لإعلام حر، بل لمناطحة فضائيات أخرى في الساحة.. و ضاعت الحرية الإعلامية في متاهات العرب من جديد.
في الفضاء غير العربي الناطق بالعربية، نجد أن “بي بي سي” البريطانية استطاعت أن تحافظ على وقارها في الفضاء العربي، وكذلك دوتشه فيله الألمانية، وفرانس 24 الفرنسية، وها هي الحرة الأميركية، تحاول التجديد والتجدد والخروج من عباءة الأجندات المغلقة التي لا تناسبها أصلا، لتعود ليبرالية علمانية، وكما أسلفنا، فالمفاهيم يجب إعادة وضعها في تعريفها الصحيح، لا مساراتها الغوغائية المبنية على الجهل.
نعم، أنا متفائل جدا بانبعاث الحرة التجديدي الشاق والصعب لكن الممكن جدا، وأعرف الكثير من الجديد القادم في فضاء “الحرة” التلفزيوني والإلكتروني، لكن وكما قالت العرب قديما: فلكل مقام مقال.