«شـكراً إيــران»

عريب الرنتاوي

تستكمل كتائب القسام، ما بدأته قيادة حماس السياسية من استدارة نحو إيران، بعد أن تبين لها أن “الدعم السياسي والمعنوي” الذي تتحصل عليه من قطر وتركيا، لن يساعدها على إدامة “خيار المقاومة” في قطاع غزة، والمؤكد أنه لن يمكنها من نقل “نموذج المقاومة” إلى الضفة الغربية والقدس، كما تعهد وتوعد غير مسؤول سياسي وعسكري في الحركة مؤخراً.
في احتفالات الذكرى السابعة والعشرين لانطلاقة الحركة، وفي نهاية العرض العسكري لكتائب القسام، كانت الكلمات تتطاير كالصواريخ، وكلها تحمل معاني التقدير والثناء على الدور الإيراني في دعم الكتائب مالياً وتسليحياً وتدريبياً و”أشياء أخرى”، وبدا أن المهرجان برمته، قد انتظم تحت شعار “شكراً إيران”، بعد أن حلت عبارات: “شكراً قطر” و “شكراً تركيا” محل هذا الشعار خلال سني صعود الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر وتونس وغيرهما، وبعد مضي أقل من عامين على اندلاع الأزمة السورية، ومغادرة قادة حماس لمقرهم المريح في دمشق.
على أية، لقد ثبت للحركة، وتحديداً لكتائبها وصقورها من السياسيين، أن العلاقات “الاستثنائية” مع الدوحة وأنقرة، لا تسمن ولا تغني من جوع … صحيح أن الدعم السياسي والمعنوي مطلوب، لكن الحركة، بما هي حركة حاملة للواء المقاومة، تحتاج إلى ما هو أكثر العواطف الجيّاشة وأبعد من مجرد الدعاء والخطابات الرنانة، وبعض الأموال التي تزداد تناقصاً من الدوحة، تحت ضغط الرقابة الدولية والضغوط الخليجية وحسابات المصالح التي تجعل الدوحة تفكر جدياً بشعار “قطر أولاً”.
ولأن الحركة تواجه مأزقاً شديداً في القطاع المحاصر، الذي لم يشرع بعد في عملية إعادة الإعمار ولا في تفكيك أطواق العزلة والحصار، فقد تقلصت خياراتها السياسية، خصوصاً في ظل غلبة واضحة لـ “تيار المقاومة” داخل الحركة على التيار الأكثر حماساً للمصالحة والانغماس في العمليات السياسية والدبلوماسية، والمؤكد أن “حماس غزة” قد حسمت الجدل داخل الحركة لصالح استعادة علاقاتها التحالفية مع طهران ومحورها وهلالها، وهذا ما تجلى في الوفد القيادي الذي غادر من الدوحة إلى طهران، وفي تحول مهرجان الانطلاقة إلى مناسبة لتجديد الشكر للثورة الإسلامية في إيران.
مثل هذا الخطاب، يتناقض كلية مع ما اعتدنا على قراءته لكتَّاب محسوبين على حماس، هاجموا إيران وحلفاءها خلال العامين الفائتين بأكثر مما هاجموا إسرائيل، ولم يقف الأمر عند هؤلاء، بل تخطاه إلى السياسيين والقادة في حماس ذاتها، الذين بدا أنهم غادروا مربعات “محور المقاومة والممانعة” وتموضعوا إلى جانب محور قطر – الدوحة – الإخوان … لقد رأينا خلال العامين الفائتين، الكثير من النقد لطهران ودمشق وحزب الله، ولكل من تحالف مع هذا المحور، ومن يرصد حجم الاهتمام وتركيز الهجمات على أطراف هذا المحور، يدرك عمق المأزق الذي يجد هؤلاء أنفسهم فيه، إذ يتابعون هذه الاستدارة السريعة نسبياً لحركة حماس، والتي تشبه في أحد وجوهها “عودة الابن الضال” إلى أحضان أمه وأبيه.
لكن المسألة هنا لا تنحصر في الجانب الأخلاقي والقيمي للمسألة، فالسياسة عموماً، تحكمها المصالح وليس الأخلاق أو القيم … المسألة ربما تتعلق بتوجهات جديدة للحركة، نابعة من انسداد آفاق المصالحة من جهة وانسداد آفاق عملية التسوية والمفاوضات من جهة ثانية، وازدياد التكهنات بقرب “الانفجار الكبير” في الضفة الغربية والقدس، ما يعني أن الحركة قد تكون رسمت لنفسها أولويات جديدة، تتخطى المصالحة واستجداء رفع الحصار والعقوبات، إلى نظرية “نقل المعركة إلى الضفة الغربية”، في الظاهر ضد الاحتلال، وفي الباطن ضد السلطة وفتح والمنظمة ومن ضمن لعبة الصراع الداخلي على السلطة والنفوذ، ولقد كان الدكتور محمود الزهار، شديد الوضوح في تحريضه أنصار حماس ومؤيديها والشعب الفلسطيني على الانتفاض في وجه السلطة وأجهزتها في الضفة الغربية، وهو صاحب المقولة الشهيرة: أطلقوا النار على رؤوسنا إن لم ننجح في نقل نموذج غزة إلى الضفة.
تتزامن هذه التحولات، مع سعي إيراني حثيث، لتسليح الضفة الغربية وعسكرتها، ولقد كان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية شديد الوضوح في الدعوة لهذا الهدف والحث عليه، وردد عدد من قادة الحرس الثوري وفيلق القدس، ذات المواقف والتعهدات من بعده، فهل ثمة التقاء بين توجهات حماس الجديدة، أو بالأحرى تبدل أولوياتها وتكتيكاتها بالتركيز على الضفة الغربية، مع التوجه الإيراني، وهل يتمكن الجانبان من تجاوز عقبة “انعدام الثقة” التي نشأت بينهما بعد الطلاق على خلفية الخلاف حول سوريا ونظامها و”ثورتها”؟
طهران بخلاف دمشق، لم تكل ولم تمل من الرهان على “عودة الابن الضال”، أبقت خطوط الاتصال مفتوحة مع تيار في حماس والكتائب، لم تعجبها مواقف خالد مشعل وصحبه في الخارج، حملته المسؤولية عن انتقال حماس إلى “الضفة الأخرى”، لكن إيران دولة، والدول لا “تحرد” ولا “تأخذ على خاطرها”، بل تعاقب وتعاتب وتضع شروطا وتحسب الأمر بمقياس الربح والخسارة، والمؤكد أن إيران تريد أن تكون لاعباً في فلسطين وعلى جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، مثلما نجحت في أن تكون لاعباً مهما في أزمات العراق وسوريا وصولاً إلى اليمن مروراً بالحرب على الإرهاب.
من تابع مهرجانات حماس، في شقيها السياسي والعسكري، ومن راقب ردّات فعل القيادة الفلسطينية على مواقف حماس الأخيرة، يدرك تمام الإدراك، أننا نبتعد يوماً إثر آخر عن المصالحة الوطنية، وأن حالة الانقسام المدمر التي عاشها الشعب الفلسطيني لسنوات سبع عجاف، ستستمر ربما لسنوات سنوات عجاف أخرى قادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى