هجرات عشوائية !!

خيري منصور

تضاعف عدد المهاجرين على امتداد خطوط الطول والعرض لهذا الكوكب خلال العقدين الماضيين عدة مرات وهناك دول منها اقطار عربية تجاوز عدد المهاجرين نصف عدد السكان، والاسباب التقليدية للهجرات لم تعد تكفي لتحليل هذه الظاهرة التي اندفعت الى اقصاها، فالنزاعات الاهلية وحروب التطهير العرقي خلعت عشرات الملايين من جذورهم، فسعوا في الأرض بحثا عن مأمن اضافة الى الملايين الاخرى التي غادرت اوطانها لاسباب اقتصادية ، وقبل ان تتسع ظاهرة الهجرات كان الوطن العربي يطرح بالحاح ما سمي هجرة الادمغة الى الغرب،  لأن هذا النزيف أدى الى تفريغ العالم العربي من الطاقات والكفاءات، وما صدر من كتب وعُقِد من ندوات حول هذا النزيف غالبا ما كان أحادي البُعد في المقتربات والمعالجات لأن التهرب من السبب الجذري وهو سياسي بالضرورة حذف قوسا مهما من محيط هذه الدائرة السوداء .

وقد عرف تاريخنا انماطا عديدة من الهجرات بحيث اصبحت الهجرة من صميم ثقافتنا، لكن المهاجرين ليسوا موعودين دائما بالانتصار لأن فوضى الهجرات وعشوائيتها واستجابتها لدوافع غريزية دفاعا عن البقاء احدث خلخلة عميقة وبنيوية في النسيج الاجتماعي، ومن ذلك اضمحلال الطبقة الوسطى، وهي الحاضنة التاريخية والاجتماعية والثقافية لكل الحراكات مما دفع كاتبا عربيا الى تأليف كتاب بعنوان وداعا للطبقة الوسطى .

والهجرات ليست ارقاما واحصاءات صمّاء، فقد اصبح لها علم اجتماع وعلم نفس من خلالهما تقرأ المتغيرات وما يترتب على الهجرات من نتائج قد تكون كارثية في بعض الاحيان، لكن أغرب ما أفرزته مواسم الهجرة العربية الى كل الجهات وليس الى الشمال فقط كما في رواية الطيب صالح الشهيرة هو غياب التلاقح الثقافي وتبادل الخبرات معرفيا فما نشاهده هو فولكلور فقط ومطاعم ومطابخ، فلم تعد الهجرات الان من طراز تلك الهجرات الشامية الى مصر في القرن التاسع عشر حيث ساهمت في نهضة شملت كل مجالات الحياة من الصحافة الى الادب والفكر التنويري .

لهذا نحتاج الى الخروج من نطاق التوصيف قدر تعلقه بظاهرة الهجرة باتجاه التحليل المعمّق ويبدو ان مثل هذا التحليل يشترط قدرا من الحرية وتسمية الاشياء بأسمائها، وهذا ليس مُتاحا في هذه الحقبة العشوائية

 

زر الذهاب إلى الأعلى