همسات مع نص “المغرور” للشاعرة تفاحة بطارسة

بقلم: زياد جيوسي

نصٌّ جميلٌ للشاعرة والكاتبة تفاحة بطارسة، يُضاف إلى ما سبق من دواوين الشعر وكتب الوجدانيات والأدب التي نشرتها. وقد كان من دواعي سروري أن قرأت معظم ما صدر من كتبها، وكلّ ما أهدتني إياه، وبعضها لم أقاوم فيه إشراقة اللحظة، فكتبت عنها قراءات نقدية مفصّلة. وفي العادة، نادرًا ما أكتب عن نصٍّ منفرد، إذ إن التمتّع والإبحار في ديوانٍ من الغلاف إلى الغلاف يمنح روحي جمالًا آخر. ولكن حين قرأت هذا النص، لم أستطع مقاومة الرغبة في نسخه إلى حاسوبي، وتسجيل ملاحظات أوليّة عليه إلى حين التفرّغ لإعادة الكتابة، والتحليق في فضاء هذا النص الذي جذبني منذ قرأت عنوانه “المغرور”، مرورًا بنسيج الشعر والكلمات، حتى خاتمته اللافتة.
وجدتُ نفسي أمام نصّ باحت به روحٌ تحمل طاقة وجدانية هائلة، بثّته في قالبٍ مكثّف وصورٍ شعرية مرسومة باحترافية، يقوم على فكرة الاحتجاج الصارخ على ما يتعرض له الإنسان من قسوةٍ وحرب وتجويع وظلم واستغلال، بنبرةٍ غاضبةٍ ممزوجة بالحزن والألم، في مواجهة واقعٍ مأساويٍّ مأزوم. ويمكن إسقاطه على كلّ المناطق التي تعاني من الحروب والاضطهاد، في مواجهة “المغرور” الظالم والمجرم المغتر بقوّته، مؤكّدةً على الحلم بالتغيير، كما قال الشاعر أبو القاسم الشابي: “لا بد لليل أن ينجلي / ولا بد للقيد أن ينكسر”، فالشعوب المقهورة تريد الحياة، والظلم لا بدّ أن يزول، كما أكّدت الشاعرة في قولها: “لن تمضي بك الأيام إن ولّى النهار.”.
نصٌّ يُصنّف ضمن شعر التفعيلة القريب من الحداثة، يتجلّى فيه الاحتجاج القويّ الموجَّه إلى شخصية أو جهة ما، بدءًا من “بحرٍ يطاردني”، وهو وصفٌ رمزيّ يشير إلى الخوف من خطرٍ قادمٍ لا يرحم، وإلى حجم الظلم واتّساعه. هذا الاستهلال الرمزي يفتح للقارئ أبواب التأويل، إذ إن البحر – كما هو في المأثور – غدّار، وهنا نراه يغدر بالمتحدثة باسم المظلومين، فتقول: “ويسلب ما حملتُ من الحكايات التي تغتالني”، ثم تُكمل في صورة بلاغية مؤلمة: “تتركني بلا لحمٍ ولا عظم”، في إشارة واضحة لما يقوم به هذا الظالم من سلبٍ وتدميرٍ للأبرياء، جسديًا ونفسيًا، وماديًا وإنسانيًا. وتخاطب هذا الظالم بقولها: “يا أيها الولد الشقيّ”. وهنا استخدامٌ ذكيّ للتضمين الرمزيّ بين شخصيتي “الولد الشقي” و”المغرور”، للدلالة على العبث الذي يمارسه رأس القوة الغاشمة، مع فارقٍ بيّنٍ بين براءة شقاوة الأطفال، وقسوة ظلم الكبار. وتُكمل: “بأي حقٍّ تقتل النبضات في قلبي؟”، فالفعل هنا أبعد من شقاوة، إنه قتلٌ متعمّد للحياة نفسها.
وتواصل الشاعرة رسم صورٍ بالغة القسوة والعنف، فتقول: “تجتاز بي تحت الركام، وخلف أشباح الدمار”، مشيرةً إلى أن هذا المحتل لا يعرف سوى القتل والخراب، ولا يكتفي بذلك، بل ينهب الموارد كما تقول: “وتنهب ما ادّخرتُ من الموارد للكبار والصغار”. في هذه الصورة يتجلّى البعد الواقعي للنص، إذ يستدعي مشهد العصابات المدعومة من الاحتلال، التي تسطو على المساعدات المخصصة لأبناء غزة، في حرب إبادة وتجويع متواصلة منذ قرابة عامين.
ورغم هذا السواد، لم تتخلّ الشاعرة عن الأمل. تخاطب العدوّ بقولها: “لن تمضي بك الأيام إن ولّى النهار”. فنهار الظلم لا يدوم، وتقول بقوة: “فالليل آتٍ مع أنين الظلم”، وهو تعبيرٌ غير مألوف، إذ اعتدنا القول إن “الفجر آت”. لكن يبدو أنها اختارت الإشارة إلى استمرار الألم حتى في الليل، في إشارة خفية إلى أن الفجر المنتظر لا يزال خلف ستار الحزن والتشرّد والدموع، لكنها تُبقي بؤرة الضوء حاضرة، إذ إن الليل لا بدّ أن ينجلي.
نصّ قويّ ومعبّر، بإيقاعٍ داخليّ وانسيابية موسيقية، جمع بين الشعور الزمني المتمثّل بطول الليل، وحجم المأساة الإنسانية، مستندًا إلى الرمزية كأسلوبٍ فنيّ لممارسة النقد الاجتماعي والسياسي، في قالبٍ شعريّ جميل متماسك، في زمنٍ تكاد الأصوات الحرة أن تخفت تحت ركام القهر، يأتي هذا النصّ ليوقظ فينا نبض الاحتجاج، ويذكّرنا بأن الكلمة الصادقة، حين تُصاغ من وجع الشعوب، تصبح سلاحًا أشدّ مضاءً من الرصاص. فالمغرور، مهما تعاظمت سطوته، لا يستطيع أن يطيل عمر الظلام، لأن القصيدة حين تُولد من رحم المأساة لا تنكسر، بل تفتح نوافذ الضوء، وتزرع في جراحنا بذور الحياة.
“عمَّان 24/5/2025”

المَغرورُ
تفاحة بطارسة
بحرٌ يُطاردني
وَيَسلبُ مَا حَملتُ
مِنَ الحِكاياتِ التي تَغْتَالني
تَجتازُ بِي تَحتَ الرُّكامِ
وَ خلفَ أَشباحِ الدَّمَار
يَا أيُّها الولدُ الشَّقِيِّ
بِأيِّ حقٍّ تَقتلُ النَّبضاتَ
في قَلبِي
وَتتركُنِي بلا لَحمٍ ولا عَظمٍ
وَ تّنهبُ مَا أدّخرْتُ
منَ المَواردِ للكِبَارِ وَ للصّغارْ
يَا أُيّها المَغرورُ
لنْ تَمضِي بِكَ الأَيّامُ إنْ ولّى النّهارْ
فَالليلُ آتٍ مَع أنينِ الظُلمِ
مع ألمِ التَّشردِ
معَ دموعِ المُتعَبِين الجَائعِينَ
منَ الصِّغار..

زر الذهاب إلى الأعلى