نفي الاتهام بـبـيــع الفلسطينيـين أراضــيـهــم لليـهـــود
بقلم الاستاذ الدكتور محمد علي الفرا
لاشك في أن أبشع التهم الكاذبة والظالمة التي وجهت ولا تزال توجه للفلسطينيين الادعاء بأنهم باعوا أرضهم لليهود وهي تهمة بدأت قبل نكبة فلسطين عام 1948 وما بعدها. ورغم مضي 74 عاماً على النكبة وأصبح من البدهي أن يكون كل عربي عارفاً بعدم صحة هذا الاتهام، إلاّ أن الجهل أو العنصرية أحياناً والكيدية في كثير من
الأحيان كان لها شأن كبير في استمرار الغموض الذي يلف الموضوع، ولم تنقشع غشاوته بتفصيلاتها كلها حتى اليوم ، ولم يدركوا أن أول من أطلق هذه التهمة يهود صهاينة لخدمة أهدافهم والتي من أهمها إسقاط حق الفلسطينيين في وطنهم بحجة أنهم باعوه، وأنهم لا يستحقون الدعم والمساندة من إخوانهم العرب والمسلمين.
لازلت أذكر حينما التحقت بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) في عام 1950 أن زملائي المصريين كانوا يقولون أنه لا يحق للفلسطينيين المطالبة بفلسطين لأنهم باعوها لليهود، وأن كثيراً من الفلسطينيين كانوا يتعاونون مع اليهود ضد الجنود المصريين الذين كانوا يحاربون على أرض فلسطين، أي أنهم لم يكتفوا ببيع أرضهم لليهود بل باعوا بالمال الجنود المصريين الذين جاءوا لنجدتهم وتحرير بلادهم.
وقد شجع على انتشار هذه الدعايات الكاذبة والاتهمات الظالمة اليهود المصريون الذين كان لهم نفـوذ اقتصادي وإعلامي في مصر آنذاك. وأذكر –على سبيل المثال– أن صحفيا ً مصريا ً اسمه «علي الدالي» نشر مقالا ً عنوانه « الأكذوبة الكبرى وراء الحدود « في مجلة التحرير المصرية التي كانت تصدر في خمسينيات القرن الماضي. وجاء مقاله على شكل استطلاع والتقط صوراً لمساجين في سجن غزة الرئيسي بالسرايا بمنطقة الرمال وزعم بأنهم محكومون بتهم العمالة لإسرائيل بينما كانوا مسجونين بتهم عادية ولم يكونوا عملاء، وكان مقالا ً تحريضيا ً على الفلسطينيين للأسف، ويصب في صالح العدو الصهيوني.
أما مسألة اتهام الفلسطينيين ببيع أراضيهم لليهود فقد بدأت حينما أطلق هذا الاتهام شخص يهودي اسمه «يوسف نحماني» ولد في روسيا عام 1891 وهاجر الى فلسطين عام 1907، وركز اهتمامه على استملاك الأراضي لصالح الصندوق القومي اليهودي «کيرين کيميت» Keren Kayemeth»، وألف كتابا ً باللغة العبرية عنوانه بالعربية «يوميات سمسار أراضي صهيوني» وتشمل هذه اليوميات من عام 1912 والفترة من عام 1935 وحتى عام 1949. وفي هذه اليوميات يورد نحماني أسماء عدد من الذين باعوا أرضهم لليهود، وأن مجموع ما امتلكه الصهاينة من أرض فلسطين منذ بدأوا بشراء أراضي بفلسطين في القرن التاسع عشر وحتى نكبة فلسطين عام 1948 نحو 1,7 مليون دونم (الدونم يساوي 1000 متر مربع) أي أقل من خمسة في المائة من أراضي فلسطين.
إن هذه الاتهامات الظالمة للفلسطينيين وتلك الهجمة الشرسة عليهم شاعت وانتشرت في الصحافة والإعلام.
وللأسف صدقها كثيرون، وأذكر أن جريدة «المصري» وكانت من الصحف الأكثر انتشاراً في مصر، ولسان حـال حزب الوفد أكبر الأحزاب المصرية آنذاك، اهتمت بالموضوع، ووجه رئيس تحريرها آنذاك «أحمد أبو الفتوح» أحـد عشر سؤالاً إلى سماحة السيد «محمد أمين الحسيني» مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، تتناول الكثير من جوانب القضية الفلسطينية، وكان السؤال الأول عن تهمة الفلسطينيين ببيع أراضيهم لليهود، وقد خصصت الجريدة صفحة كاملة في كل عدد من أعدادها للجواب عن هذه الأسئلة، وكان ذلك –فيما أذكر– عام 1951، وكنت أحرص على الاحتفاظ بها إلى أن قام مكتب الهيئة العربية العليا لفلسطين بالقاهرة وبناءً على طلب الكثيرين بطبع ونشر هذه الاجابات لأهميتها في كتاب بعنوان «حقائق عن قضية فلسطين» ونشر عام 1954.
كان الجواب عن تهمة بيع الفلسطينيين لأراضيهم، بأنها تهم لا صحة لها وهدفها تنفير العرب من الفلسطينيين وأنهم لايستحقون الدعم والمساندة ما داموا فرطوا في وطنهم وإنما ينبغي توجيه اللوم لهم. والحقيقه أن عرب فلسطين لم يفرطـوا بأراضيهم ولـم يبيعوها لليهود رغم الضغوط والإغراءات المالية، والإحصائيات الرسمية الصادرة عن حكومة الانتداب البريطانية توضح ذلك، وإليك بيانها :
«بلغت مساحة أراضي فلسطين نحو سبعة وعشرين مليون دونم، وقد بلغ مجموع ما استولى عليه اليهود إلى يوم انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين ودخول الجيوش العربية الأراضي الفلسطينية في 15/5/1948 وهو اليوم الذي أعلنت فيه إسرائيل قيامها كدولة نحو مليون وسبعمائة وخمسون ألف دونماً أي 6% فقط من مجموع أراضي فلسطين، وقد تسربت على النحو التالي :
1- 650,000 دونم استولى عليها اليهود في عهد الحكومة العثمانية خلال حقبة طويلة من الأراضي الأميرية (أي المملوكة للدولة) وذلك بحجة انعاش الزراعة وإنشاء مدارس زراعية . وقد احتج عرب فلسطين آنذاك مطالبين الحكومة العثمانية بعدم منح أراضي لليهود .
2- 300,000 دونم منحتها حكومة الانتداب البريطانية لليهود دون مقابل (وهي من أملاك الدولة).
3- 200,000 دونم منحتها حكومة الانتداب البريطانية لليهود لقاء أجرة اسمية (وهي من أملاك الدولة).
4- 600,000 دونم اشتراها اليهود مـن عـدد مـن اللبنانيين والسوريين الذين كانوا يملكون أراضـي فـي فلسطين في العهد العثماني وباعوها حينما خضعت فلسطين للانتداب البريطاني، وهذه الأراضي تشمل مرج بن عامر ووادي الحوارث والحولة وغيرها.
ليصبح المجموع 1,750,000 دونما ً (مليون وسبعمائة وخمسون ألف دونماً).
في عام 1968 نشرت دار الفتح في بيروت كتابا ً للمرحوم صالح مسعود أبـو يصير وهو وزير ليبي سابق، استشهد في شهر شباط/ فبراير عام 1973 بتحطم الطائرة التي كان فيها بنيران إسرائيلية فوق شبه جزيرة سيناء المصرية وعنوانه «جهاد شعب فلسطين» ذكر فيه أن مجموع الأراضي التي تملكها اليهود بلغت نحو 207,000 دونماً.
منذ أكثر من عام اطلعت على صحيفة إلكترونية تهتم بالشأن الفلسطيني اسمها «دنيا الوطن» حيث تناولت في عددها الصادر بتاريخ 19/5/2012 موضوع بيع الأراضي في فلسطين تحت عنوان من الذي باع أراضي فلسطين لليهود؟ سمسار إسرائيلي يؤرخ ويروي الأسماء، وعليها اعتمدت فيما ذكرت سابقا عن «يوسف نحماني» سابق الذكر، وورد فيها أيضاً ذكـر کتـاب صـالح مسعود أبو يصير وورد أيضاً أن من الكتب التي تناولات قضية بيوع الأراضي كتاب هند أمين البديري وعنوانه: أراضي فلسطين، وقد صدر في القاهرة عن جامعة الدول العربية عـام 1988، وكتاب يعقوب الخوري: أملاك العرب وأموالهم المجمدة في فلسطين، وقد صدر عن دار الهنا بالقاهرة بدون تاريخ، وكتابات لسامي هداوي ومعظمها باللغة الانجليزية لعل أهمها كتاب عنوانه يوميات فلسطين The Palestine Diary ألفه بالاشتراك مع روبرت جون Robert John وهو من جزأين صدر عن مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت عام 1963، وكتاب الحصاد المر Bitter Harvest عام 1967، وكان سامي هداوي مسؤولا ً كبيرا ً في دائرة الأراضي بفلسطين في عهد الانتداب البريطاني ثم في الأردن من عام 1949 وحتى عام 1952.
ـما عن الكتابات الصهيونية فإن أهمها كتاب كينث شتاين Kenneth Stein وقد صدر باللغة الانجليزية «The Land Question In Palestine 1917-1939» مسألة الأرض في فلسطين 1917-1939» وقد صدر عن جامعة نورث كاورلينا عام 1984. وقد فندت هذا الكتاب المؤرخة المعروفة الدكتورة بيان نويهض الحوت في مقالين مطـولين أولهما بعنوان «هؤلاء الآباء ما باعوا أراضيهم لليهود، إسرائيل لم تمتلك حين قيامها في 15/5/1948 سوى خمسة بالمائة من أراضي فلسطين، وسائل التصدي والفتاوي الدينية بتحريم بيع الأرض»، ونشر هذا المقال بجريدة الدستور الأردنية في التاسع من شهر آب عام 1997، وفي اليوم التالي نشر المقال الثاني بعنوان : « قراءة تاريخية إحصائية للائحة كينيث شتاين».
تقول الدكتورة بيان نويهض الحوت: «ورد لدى كينيث شتاين أن مجموع الأراضي التي حصل عليها اليهود في فلسطين بحكم صكوك البيع قد بلغت حتى سنة 1945 نحو 1.393.531 دونما»، وهي تعادل بالكيلومترات المربعة 1280 کيلو متر مربعاً. وبالنسبة المئوية 4.74% فقط، أي أقل من خمسة بالمائة (ص???) ولكن شتاين يرفع رقمه بحساب تقديري لا بالأرقام الموثقة حتى يصل إلى المليوني دونم.
وتقول الدكتورة بيان الحوت أن شتاين لم يثبت بالإحصاءات الدقيقة سوى نحو سبعين بالمائة من المساحة التي قال بأن اليهود قد حصلوا عليها، وأما الثلاثون بالمائة الباقيه فكانت مجرد حسابات تقديرية، ولكن مهمة شتاين في كتابه هذا لم تكن مجرد إحصاء للمساحات، بل له هدف أبعد بكثير، وهو التشكيك في وطنية الشعب الفلسطيني باستعداده لبيع الأراضي لليهود الصهاينة، وهو يقول «إن بيع العرب لأرضهم يعني غياب الإلتزام الحقيقي بالوطنية الفلسطينية».
ولكنه بعد ذلك يريد إلصاق تهمة: «أنتم بعتم أرضكم لليهود» بالشعب الفلسطيني، ثم بعد ذلك جاء دور التشكيك القاتل بكل الثورات والتضحيات وبكل المسيرة الوطنية الفلسطينية، وبكل النخب السياسية في فلسطين، وكأن هذه النخبة لم تكن إلا مجموعات من المنتفعين وباعة الأراضي، وهذا –كما تقول الدكتورة بيان- تماماً ما سعى إليه «شتاين» وما حاول إثباته بكل صفاقة بوضع جدول مطول بأسماء تلك النخبة. ومن بين الأسماء التي وردت في الجدول موسى كاظم الحسيني زعيم الحركة الوطنية في فلسطين والذي توفي عام 1934 إثر تعرضه لاعتداء من الجنود البريطانيين في أثناء قيادته لمظاهرة في مدينة يافا، وهو والد القائد عبدالقادر الحسيني مؤسس جيش «الجهاد المقدس» والذي استشهد في معركة القسطل في الثامن من شهر ابريل/نيسان عام 1948م.
وورد في الجدول أيضا اسم المفتي محمد طاهر الحسيني، وموسى العلمي، وصبحي الخضرا وراغب النشاشيبي، وجميعهم قادة مشهود لهم بالوطنية، وقد أثبتت الدكتورة بيان نويهض الحوت كذب هذه الطعون في شخصياتهم والتي كانت هدفها الأساسي تشويه نضال الشعب الفلسطيني وجهاده منذ أن ابتلى بـالمخطط الصهيوني والذي بدأ بتنفيذه بإعلان وعد بلفور المشؤوم في الثاني من شهر نوفمبر عام 1917، ويعد هذا النضال الأطـول تاريخيا وهو لازال مستمراً حتى الآن، ولم يشهد التاريخ قضية مثل القضية الفلسطينية والتي قامت على مؤامرة عالمية نجم عنها طرد شعب من وطنه وإحلال أناس من مختلف أنحاء الأرض وحل المسألة اليهودية التي كانت تعاني منها أوروبا في القرن التاسع عشر وإقامة دولة مستندة على خرافات وأساطير توراتية وتلمودية ليهود لا علاقة لهم بالشرق ولا قرابة تربطهم عرقياً بالأنبياء إبراهيم واسحق ويعقوب وموسى عليهم السلام كما يزعمون، فالذين أنشأوا إسرائيل يهود أوربيون من نسل يهود الخزر وهم كما تقول كتبهم أنهم من أصل طوراني تركي أقاموا دولة لهم في القرن السابع الميلادي قرب نهر الفولجا حول بحر قزوين واعتنقوا الديانة اليهودية وقضى الروس على هذه الدولة في القرن الثالث عشر للميلاد، وهاجر كثير منهم إلى أوروبا بعد تعرضهم للاضطهاد الروسي في القرن التاسع عشر، وهذه الهجرات المكثفة أزعجت الأوروبيين وبخاصة البريطانيين لأن نسبة المهاجرين إليها من اليهود الذين هم من أصول خزرية كانت كبيرة جداً فعقد رئيس وزراء بريطانيا في عام 1903، وهو آرثر بلفور وهو نفسه الذي أصبح وزير خارجية بريطانيا في وزارة الحرب البريطانية لويد جورج، حيث أصدر وعده المشؤوم في عام 1917 السابق ذكره.
نخلص من هذا أن إسرائيل قامت على مشروع استعماري واستخدمت الأساطير والخرافات التوراتية والتلمودية لاستقطاب اليهود المتدينين الذين عارضوا بشدة الحركة الصهيونية في البداية لتعارضها مع النبوءات التوراتية أنذاك.
يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في المجلد الثاني من موسوعة اليهود واليهودية صفحة 214، بأن هناك عقداً غير مكتوب يطلق عليه العقد الصامت وبموجبه تتعهد الحركة الصهيونية بإخلاء أوروبـا مـن يهودها أو على الأقل الفائض البشري اليهودي وتوطينهم خارج العالم الغربي داخل دولة وظيفية ويتحقق نتيجة ذلك عدة أهداف لعل من أهمها تحقيق مطالب الغرب الاستراتيجية والعمل على زيادة تفتيت المنطقة العربية ومنع أي محاولة لتوحيدها أو التنسيق والتعاون فيما بينها بافتعال الفتن والأزمات في المنطقة.
وًخيراً نختم موضوع بيوع الأراضي لليهود بما نشر حديثا –أي في شهر مايو/ أيار عام 2021 وبعنوان «الاكذوبة التاريخية.. هل باع الفلسطينيون أرضهم لليهود»، وذلك على موقع « ويكيليكس Wikileaks « والتي تقول انها حصلت عليها من خلال وثائق الحكومة البريطانية كشفت فيها عن بيع أراضي فلسطين قبل نكبة عام 1948، وبينت المساحات المباعة وأسماء العائلات اللبنانية والسورية التي باعت الأراضي لليهود وذلك على النحو التالي :-
1- آل سرسق اللبنانيون (ميشال ويوسف ونجيب).. وبلغ مجموع ما باعه أفراد هذه العائلة 400 ألف دونم.
2- آل سلام اللبنانيون.. وبلغت إجمالي المساحة المباعة 165 ألف دونم.
3- آل تيان اللبنانيون (أنطون وميشال).. وبلغ مجموع ما باعه أفراد هذه العائلة 308 آلاف دونم.
4- آل تويني اللبنانيون الذين باعوا أملاكاً في مرج ابن عامر وقرى بين عكا وحيفا وقام بالبيع ألفرد تويني.
5- آل الخوري اللبنانيون.. وبلغ مجموع ما باعه أفراد هذه العائلة 3850 دونماً.
6- آل القباني اللبنانيون.. وبلغ مجموع ما باعوه 4 آلاف دونم.
7- مدام عمران.. باعت وحدها 3500 دونم.
8- آل الصباغ اللبنانيون الذين باعوا أراضي في السهل الساحلي.
9- محدا بيهم (من بيروت) الذي باع أرضاً في الحولة.
10- خير الدين الأحـدب (رئيس وزراء) وصـفـي الـديـن قـدورة وجـوزف خـديـج وميشـال سـارجي ومـراد دانـا (يهودي) والياس الحاج أسسوا في بيروت، بتاريخ 19/8/1935 شركة لشراء الأراضي في جنوب لبنان وفلسطين وبيعها لليهود.
11- آل اليوسف السوريون الذين باعوا أراضيهم في البطيحة والزوية والجولان.
12- آل المارديني السوريون الذين باعوا أملاكهم في صفد لليهود.
13- آل القوتلي والجزائري والشمعة والعمري السوريون وكانت لهم ملكيات متفرقة في فلسطين.
أما الأراضي التي تسربت لليهود من عرب فلسطين فلا تزيد عن 250 ألف دونم فقط أي 12.5% من جملة الأراضي التي تسربت لليهود من جميع الجهات وأقل من 1% (%0.925) من جملة مساحة أراضي فلسطين البالغة كما قلنـا سابقاً نحـو سبعة وعشرين مليون دونـم ومعظم هذه الأراضي المتسربة ورغم ضآلتها فإنها تسربت بسبب ظروف قاهرة، منها وقوعها ضمن حدود بلديات يهودية مما أدى إلى تعرضها لخطر المصادرة بحجة إقامة منافع وخدمات عليها، وعلى هذا الأساس نزعت ملكية بعض الأراضي العربية، علاوة على انتزاع ملكية أراضي عربية وفقا ً للماده الثانية من صك الانتداب البريطاني على فلسطين التي نصت أن من واجب الحكومة المنتدبة أن تسهل لليهود جميع الوسائل لإنشاء الوطن القومي اليهودي.
قد يتساءل البعض عن كيفية تملك العائلات اللبنانية والسورية لمساحات كبيرة من فلسطين والتي باعتها لليهود كما ورد أعلاه؟.
وهو تساؤل هام جداً يوضح الأمور لكثيرين يظنون أن هذه الأراضي قد تم شراؤها من الفلسطينيين. وعلى حسب
اطلاعي فإن جميع الذين كتبوا في موضوع بيوع الأراضي الفلسطينية لليهود لم يتعرضوا لكيفية تملك الأسر لهذه الأراضي.
وللإجابة على هذا السؤال لا بد من إعطاء خلفية تاريخية عن التقسيمات الإدارية للديار الشامية، وذلك أن التسميات الحالية (وهي فلسطين والأردن وسوريا ولبنان) لم تكن شائعة ولا مستخدمة قبل اتفاق سايكس–بيكو عام 1916 والذي تم بموجبه تقسيم المشرق العربي إلى مناطق نفوذ أوروبية، وبخاصة بريطانيا وفرنسا، وألغى التقسيمات الإدارية ووضع لأول مرة حدوداً سياسية. ومن المعلوم أن الحدود الإدارية تكون في البلد أو القطر الواحد والذي يقسم في العاده إلى أقسام لها مسميات مختلفة مثل: ألوية ومحافظات، أما الحدود السياسية فتفصل بين الأقطار أو البلدان، ودون الإسهاب في سرد تاريخ الحدود في بلاد الشام والذي يطلق عليها سوريا الكبرى فإن فلسطين منذ العصور اليونانية والرومانية والإسلامية كانت منطقة إداريـة ضـمن الوحدات الإدارية للديار الشامية ولو اطلعنا على سبيل المثال على كتاب (أحسن التقاسيم لمعرفة الأقاليم) للجغرافي محمد بن أحمد شمس الدين المقدسي والذي عاش في القرن العاشر للميلاد المعروف بالمقدسي فإنه يذكر أقسام بلاد الشام فيقول كورة فلسطين وقصبتها أنذاك الرملـة وكـورة الأردن وقصبتها آنذلك طبرية. والكورة كلمة يونانية تعني منطقة. ولما احتل السلطان العثماني بلاد الشام عام 1516 أقام والياً على الشام مقره دمشـق وأعـاد تشكيل الحـدود الإدارية والتي تعرضت للتغير بحسب مستجدات الأحداث، وكان آخر تعديل لهذه الحدود الإدارية في عام 1871، وحتى لا نطيل في التفاصيل نقول بأن فلسطين كانت مقسمة فيما عدا القدس إلى متصرفات وألوية يتبع بعضها دمشق والبعض الآخر يتبع بيروت، بينما القدس فكانت سنجقاً يتبع الباب العالي في اسطنبول لمكانتها الدينية، ويتبع سنجق القدس أقضية يافا وغزة وبئر السبع والخليل.
مما سبق ندرك أنه كان من الطبيعي أن يكون للسوريين واللبنانيين أراض وأملاك في فلسطين لكونهم مواطنين فيها ويحملون ما كان يسمى بالمواطنة العثمانية أو الرعايا العثمانيين، وفي الوقت نفسه يتبعون لنفس القضاء الذي يتبع جميع السكان والذين أصبح قسم كبير منهم فلسطينيين بعد سايكس-بيكو واحتلال بريطانيا وفرنسا لبلاد الشام واطلاق التسميات الحالية عليها.
ولذلك فإن الأسر اللبنانية والسورية قررت بيع أملاكها واستثمار أثمانها في مكان استقرارها في الأراضي التي صارت تسمى سوريا ولبنان حيث يقيم فيها غالية أقاربهم وعشائرهم. وتم البيع على شكل صفقات بمبالغ لـم يكـن فـي فلسطين من يستطيع شراءها أنذاك. ولكن اليهود كانوا على استعداد لذلك، ففي عام 1901 أسس اليهود الصهاينة
الصندوق القومي اليهودي «كيرين كيميت»Keren Kayemeth» لجمع الأموال من يهود العالم لشراء الأراضي بفلسطين وإقامة المستعمرات أو المستوطنات عليها. وكان الصندوق على استعداد لشراء الأراضي بأسعار أعلى من قيمتها الحالية أنذاك.
وأخيراً هناك مسألة أخرى لا بد من توضيحها وهي أن البعض قد يفهم مما سبق أن اسم فلسطين لم يكن موجـوداً في الماضي أي قبل احتلال بريطانيا لفلسطين عام 1917 ولذلك نرى البعض يحرص على نشر رسائل أو فيديوهات تثبت وجود كيان فلسطيني إما بنشر صور نقود عليها فلسطين أو إثباتات أخرى لاعتقادهم أن اليهود ينكرون وجود شئ اسمه فلسطين، وهذا ليس صحيحاً فاليهود لاينكرون فلسطين، فوعد بلفور الذي صدر عام 1917 ذكر اسم فلسطين حينما نص على « إقامـة وطـن قـومي لليهود في فلسطين». كما أن فلسطين ذكرها المؤرخون منذ عصر اليونان والرومان ولسنا بحاجة لنثبت وجود فلسطين بأدلة جديدة، ولكن اليهود ينكرون وجود الفلسطينيين وليس فلسطين. فعلى سبيل المثال شاهدت فيديو نشره بعض الفلسطينيين تقول فيه رئيسة وزراء إسرائيل السابقة (جولدا مائير) بأنها فلسطينية وهدفهم بذلك إثبات وجود فلسطين ولكنهم لم يدركوا أنها لم تكن تنكر فلسطين ولكنها تنكر وجود الفلسطينيين حينما قالت بالحرف الواحد :»there was no such
thing as Palestinians» لم يكن هناك شيء اسمه فلسطينيون، وكان قولها هذا حينما كانت رئيسة للوزراء في مقابلة مع الصحفي (فرانك غلز) Frank Giles نائب رئيس صحيفة (صندي تايمز) في الخامس عشر من شهر يونيو/حزيران 1969م. أما الفيديو الذي نشر عنها فكـان هدفه تحديدها لفلسطين إذ قالت بأن فلسطين تمتد من البحر المتوسط حتى الحدود العراقية. وهذا ما كانت تطالب به الصهيونية وتعتقد أن وعد بلفور كان يعني ذلك. ولمزيد من الفائدة فـإني أقول ومن اطلاعي على الوثائق البريطانية «أوراق فلسطين 1917–1922، ترجمة دورين انجرامز» عن دار النهار للنشر بيروت 1972 من صفحة (51-54) فقد اجتمعت في الخامس من شهر كانون أول/ديسمبر 1918 أي بعد نحـو عـام مـن وعد بلفور لجنـة الشرق الأوسط برئاسة اللورد کيرزون Curzon نائب الملك في الهند سابقاً وبحضور بلفور. وفي هذا الاجتماع قال كيرزن بأنه ينبغي تحديد فلسطين التي يشملها وعد بلفور لأن اليهود كمـا قـال لا يطالبون بحدود فلسطين القديمة فحسب، ولكنهم يدعون إلى الامتداد عبر نهر الأردن إلى البلدان الغنية الواقعه شرقاً.. وعلينا الآن أن نتفق على استعادة حدود فلسطين القديمة.. إن العبارة القديمة «من دان إلى بئر السبع لا تزال هي السائدة».
وفي هذا الاجتماع تم تحديد حدود فلسطين الانتدابيـة (أي في عهد الانتداب البريطاني). ولما علم اليـهـود الصهاينة بذلك جن جنونهم واعتبروا أن بريطانيا نكثت بتعهداتها لأنهم يعتقدون بأن الأردن قسم من فلسطين وأن حـدود فلسطين كما زعمت جولدا مائير تمتد من البحر المتوسط حتى الحدود العراقية.