نداء الى مثقفي الشرق

الدكتور اياد البرغوثي*

على ما يبدو، فإن مثقفي المنطقة، اتخذوا موقفا ايجابيا من الاتفاق السعودي الايراني الذي جرى برعاية صينية مؤخرا. بعضهم اعتبر ذلك ضروريا من أجل خلق حالة سلام بين البلدين، آملين في أن ينعكس ذلك ايجابا على ملفات شائكة في اليمن وسوريا ولبنان، وربما غيرها من بلدان المنطقة. والبعض الآخر ركز على ما يعني ذلك الاتفاق، من تحولات في ميزان القوى العالمي، ايذانا بميلاد نظام عالمي جديد، تتعدد فيه الاقطاب، وتستريح شعوب المنطقة ودولها من نظام عانت منه في العقود الماضية، حروبا وقتلا وتدميرا.

استثمارا لهذا الجو الإيجابي الذي أتى به ذلك الاتفاق، وبارقة الأمل التي قد تبنى عليه. وفي ظل ما يجري من ارهاصات تشير الى تغيرات عالمية كبيرة. وحتى لا يستمر الظلم والعبث واللا معقول الذي شهدته البشرية خاصة في منطقتنا. رأينا ضرورة توجيه نداء الى مثقفي الشرق؛ الايرانيون والاتراك والافغان والكرد والامازيغ والعرب، وكل من يرى نفسه ضمن هذه الدائرة التي يجري الحديث عنها، للمساهمة بدوره في العمل على تخليص شعبه والمنطقة، من هيمنة الاستعمار القديم والجديد، ومن الصهيونية، والاستبداد، وأن لا يكتفي بدور المراقب أو المحلل لما يجري.

هذا النداء موجه الى مثقفي المنطقة على اختلاف مشاربهم الفكرية، وانتماءاتهم الهوياتية، الذين يجمعهم الحرص على مستقبل المنطقة وشعوبها، والمتطلعين الى الحرية والتحرر والاستقلال والتنمية الحرة لشعوبهم، وللمساواة في ما بينها. والداعين الى علاقات سليمة وصحية بين دول المنطقة ومواطنيها، وبين دولها في ما بينها.

ان الدور الذي يمكن أن يقوم به المثقفون، بل وينبغي أن يقوموا به، سوف يدفع التقارب السياسي الذي بدأت خطواته الأولى بعض دول المنطقة، الى مواقع يكون فيها أكثر عمقا واصالة، ويخرجه من دائرة السياسة سريعة التغير، والخاضعة لاعتبارات عديدة، الى دائرة الثقافة الأكثر ديمومة، والاستراتيجيا الأكثر ارتباطا بالمصالح الحقيقية للشعوب. فأن يصبح التقارب جزءا من ثقافة الشعوب والأمم، يعني أن ننأى به عن “مزاج” السياسة ونجعله جزءا من مصالح الجماهير ومن وجدانها.

مثقفو هذه المنطقة -الشرق- مدعوون الى حوار معمق على قاعدة تبني المصالح الكبرى التي تقتضي الحل التوافقي والمنطقي والقانوني للخلافات بين دولها “الطبيعية”. ان الانطلاق من حقيقة أن وحدة الجيواستراتيجيا توحد المصالح، أو على الأقل تقربها، تنقل المشاكل بين دول المنطقة، من حالة الاستعصاء التناحري الذي يستغله الأعداء، الى حالة الخلاف الذي ينبغي حله بالتوافق، ولما فيه مصلحة الأطراف المعنية.

مطلوب من مثقفي الشرق، البحث في كيفية تجاوز “مطبات” الماضي الى الأبد، بحيث يحظر العودة اليها كلما حدث اختلاف بين دولتين في المنطقة، أو بين مجموعة من الدول. ان التعامل مع مشاكل الحاضر، ينبغي أن يكون انطلاقا من معطيات الحاضر نفسه، ومن آمال المستقبل، والاستناد الى الحق وإلى المصالح المشتركة. ان استدعاء الماضي ومشاكله كلما حدث خلاف بين دولتين، ما هو الا استجابة “بلهاء” لأعداء الأمة. ووصفة لحروب داخلية لا تنتهي.

كما أن على المثقفين أن يقتنعوا، ويقنعوا شعوبهم، أن الخلافات لا يجب أن تحدث على الوسائل في حال كان الهدف واحدا. فالأفكار والاحزاب والأنظمة ما هي إلا وسائل متعددة، وطرق متعددة، لذلك ينبغي التصالح مع مسألة تعدد الوسائل والخيارات للوصول الى الهدف، والكف عن خسارة اهدافنا في خضم التقاتل على أحقية وسائلنا.

ان المثقفين هم الأقدر، وهم المطالبون، ببلورة مشروع يمثل المشترك لشعوب المنطقة، مشروع “الشرق”، الذي يعمل على تحرر المنطقة واستقلالها وخلاصها من الهيمنة الاستعمارية، ويستند على بعد انساني اخلاقي، يحفظ للعالم توازنه المادي والروحي، ويستبدل الشرق من جغرافيا تشكل ميدانا للصراع بين القوى الكبرى، الى جغرافيا للحوار والحفاظ على السلم العالمي.

ذلك المشروع، يحدد المصالح العليا لشعوب الشرق، من خلال تكريس تقارب تلك الشعوب ووحدتها ونهضتها، أو على الأقل، تكريس الوعي بأهمية ذلك، ويجري العمل على ترسيخ ذلك في الثقافة وفي القيم.

كما أنه من الضرورة بمكان، أن يوضح المشروع العلاقة العضوية بين الشرق وفلسطين. فلا تحرير لفلسطين من دون شرق يتبناها ويناضل من أجلها. ولا شرق بدون فلسطين التي تعطيه معناه، وتحدد هويته، وتشكل جوهره، وترسم مستقبله، ليس فقط لأنها قضية حق من ناحية وظلم من ناحية أخرى، وليس أيضا لأنها اعتداء سافر واغتصاب لحقوق شعب شرقي، كما أنه ليس لاعتبارات الأهمية الروحية لفلسطين على اهميتها، بل لأن فلسطين هي المنطقة الأكثر حسما في جيواستراتيجيا الشرق، فهي مؤشر تحرره أو بقائه تحت الهيمنة. من هنا جاءت مركزية القضية الفلسطينية لشعوبه.

هنا تكمن اهمية دور المثقفين في تسليط الضوء على ارتباط فلسطين بالشرق والشرق بفلسطين. ومن هذه الزاوية، ينبغي فهم الموقف من فلسطين ومن اسرائيل، ومن ما يجري من مقاومة أو من تطبيع. ان الموقف من فلسطين هو الذي يحدد موقف المثقف أو الشخص اجمالا أو الدولة، من مشروع الشرق في رفض الهيمنة والتحرر وحرية تقرير المصير، أو انحيازه للمشروع الآخر الذي تشكل فيه اسرائيل ضابط ايقاع المنطقة، ويرتكب كل الجرائم ويستخدم كل الطرق للإبقاء على سيطرته على المنطقة، للحفاظ على تبعيتها، واستغلال ثرواتها، واستخدامها من أجل فرض هيمنته عليها وعلى العالم.

هذا النداء، يأتي استثمارا لفرصة نعتبرها “تاريخية”، اتاحها الاتفاق السعودي الايراني، الذي صحيح أنه ما زال من المبكر الحكم على مدى تأثيراته الإيجابية على المنطقة، إلا أنه وبدون شك، فتح ثغرة في جدار العزلة بين شعوب المنطقة ونخبها، إذ يمكن للمثقفين الآن، أن يتحاوروا ويبحثوا في جو من الطمأنينة والثقة وعدم “التخوين”، وفي قدر من “الانسجام” مع دولهم، في مشاكل المنطقة، وفي حيثيات المستقبل الذي يريدوه لشعوبهم.

هذه الدعوة للحوار بين مثقفي الشرق، تبدو أكثر واقعية الآن، وهي ليست خطوة معزولة عن واقع المنطقة وتاريخها، بل هي بناء على ما سبق وأن قام به مثقفون كبار، أدركوا المصير المشترك لشعوبها وأممها، وفهموا ضرورة أن يكون للأمة مشروعها، فالأمة بدون مشروع هي ليست أكثر من كلام في الهواء.

تسعى الأمم الحية بالضرورة للبحث الدائم عن عوامل قوتها ووحدتها، وتعمل كل ما بوسعها، لنبذ ما يدفعها باتجاه الانعزال والتشرذم والضعف والمناخ الملائم لدخول الاستعمار. هذا ما يجب أن يشق طريقه المثقفون، وهم المطلوب منهم ايضا أن يصنعوا الأمل والتفاؤل والثقة في قدرات شعوبهم.

الدعوة تشمل ايضا المؤسسات الثقافية الجادة في الشرق، ربما لرعاية هذا الحوار، وأخذ زمام المبادرة، وهي بالتأكيد سيكون لها شرف المشاركة في إطلاق مشروع “الشرق” هذا، الذي يعني تجسيده – أي الشرق- في وعي الشعوب التي سئمت من التبعية، وامتهان الكرامة الوطنية، والتي تسعى لأن تكون حرة وندا ايجابيا في النظام العالمي القادم

أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

زر الذهاب إلى الأعلى