مقاعد الانتظار في لجوء ستان

بقلم: زياد جيوسي

عن دار جفرا في عمَّان/ الاردن ودار جاسم الدندشي في كندا صدرت رواية: لجواء ستان وهي رواية مشتركة للكاتب مراد سارة فلسطيني الجذور وأردني الجنسية، والكاتبة سهاد الدندشي السورية الأصول وكندية الجنسية، والغلاف الأول عبارة عن لوحة للفنان عبد الكريم الحسن تعبر جيدا عن البيوت المتروكة بعد أن تم تهجير أصحابها منها، بخلفية سوداء تماما وعنوان مكتوب باللونين الأسود والأحمر على قاعدة بيضاء تحت الحروف والدم يسيل من الحروف، بينما الغلاف الأخير صورتين للمؤلف والمؤلفة وفقرات مقتطعة من الكتاب تعطي فكرة عنه.

من العنوان نستطيع أن نعرف فكرة الرواية وأنها تدور حول اللجوء بحثا عن الأمان والهجرة الاجبارية بسبب الارهاب في الأوطان، ونلاحظ أن الكاتبين استخدما كلمتي “لجوء ستان” بينما كان الأجدر استخدام كلمتي “أرض اللجوء” باللغة العربية بديلا عن استخدام كلمة “ستان” وهي كلمة فارسية تعني أرض، وبدأت الرواية باهدائين من الكاتب بطريقته المعتادة التي تمازج المكان بالانسان بالحدث، منهيا الاهداء بعبارة “وقد احتملت كل هؤلاء” مما رسم ابتسامة على شفاهي وتعليق مسموع: نحن من تحملناك وما زلنا يا مراد، والاهداء الثاني من الكاتبة وهو اهداء تقليدي موجه لأهلها وأسرتها، وقدمت للكتاب الروائية فتحية دبش التونسية الجنسية المقيمة في فرنسا وتحمل جنسيتها أيضا، وإن كنت عادة أشير بالاسم لمن يقدم أي كتاب ولا أناقش ما يكتب، لكن لفت نظري واستفزني بالتقديم عبارة: “من حق اللاجئ الفلسطيني أيضا وقد يئس من حق العودة أن يمتلك هو الآخر حق اختيار منفاه”، وأقول بصوت مرتفع لها: الفلسطيني لم ييأس من حق العودة أبدا، ولاحظي يا سيدتي أن الفلسطيني ما زال في كل أنحاء العالم يحمل مفاتيح العودة، وانتبهي للدور الفلسطيني في الشتات قبل وبعد حرب أوكتوبر 2023، والشعب الفلسطيني قد أفشل مقولة الصهيونية الفاشية جولدمائير: “بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون”، فالكبار بغالبيتهم ماتوا ولكن الابناء فجروا الثورة والصغار من الأحفاد وأبناء الأحفاد هم من يقاتلون ويقاومون الاحتلال في الوطن، وهم من لا يتوقفون عن المسيرات والمطالبة بحق العودة في الشتات.

بعد التقديم كان هناك تمهيد من الكاتبة يكشف بوضوح انحيازها ضد النظام رغم محاولتها “المزاوجة بين الصورة الحاصلة في فلسطين وسورية”، والمزاوجة الوحيدة من وجهة نظري أن فلسطين تعرضت لدعم بريطانيا للعصابات الصهيونية وتسليحها، وأمريكا دعمت العصابات الداعشية وغيرها لتدمير سوريا والاستيلاء على نفطها ومواردها الخام، ويمكن الرجوع لما قاله الكولونيل السيانتور ديك بلاك حين صرح تصريحات طويلة أقتطف منها فقرات قليلة: “تذكروا ما كانت سورية ذات يوم، كان لسورية اقتصاد متوازن بشكل جيد: فقد أنتجت معظم سلعها الصناعية ووقودها ومنتجاتها الزراعية، كانت تعاني من القليل فقط من الفقر وتتمتع بتجارة مزدهرة، كانت دولة تتحمل مسؤولية التنمية الاقتصادية./ في عام 2001 ، أمر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد البنتاغون بصياغة خطط للإطاحة بسبع دول في الشرق الأوسط ، بدءًا من العراق، ثم سورية، ثم لبنان، وليبيا، والصومال، والسودان، وانتهاءً بإيران، لم تعتدِ أي دولة منهن على الولايات المتحدة، وفي عام 2006 وضعت السفارة الأمريكية في دمشق خططًا مفصلة لزعزعة استقرار سورية والإطاحة بها، تم نشرها على نطاق واسع في البنتاغون إلى شعب قيادة مختلفة، وأرسلت إلى الناتو، وانتشرت على نطاق واسع اخبار هذه الخطط المحددة لزعزعة استقرار سورية والإطاحة بها، وكان ذلك قبل وقت طويل من حدوث المظاهرات في سورية.”

وبداية لا بد من الإشارة أن تقديم قراءة نقدية لكتاب بأقلام كاتب وكاتبة مع اختلاف الخبرة والقضية بين الاثنين يواجه العديد من الاشكالات وأهمها كيفية التعامل مع أسلوبين مختلفين في الكتابة، في كتاب واحد يترك العبء على القارئ ليرى أين يبدأ مراد وأين يتوقف ومتى تبدأ سهاد ومتى تتوقف، والبدايات كانت واضحة أنها بقلم مراد سارة فهذه المشاهد سبق وأن قرأتها له مع قليل من الاختلاف، ولكنه هنا أعاد الصياغة ودمجها بمقدمة الرواية، ويلاحظ تكرار استخدام الكلمات غير العربية رغم وجود البديل العربي، فمن اسم الرواية “لجوء ستان” حيث “ستان” كلمة فارسية بديلا عن أرض اللجوء، الى استخدام كلمة “برواز” في ص 19 وهي كلمة تركية ومقابلها بالعربية إطار و”براويز” ص 86 و”بروازها” ص 169، و”شبشب” وهي كلمة أجنبية تعني مقياس القدم ومقابلها العربي “نعال خفيف”، وسبق أن وجهت هذه الملاحظات للكاتب مراد سارة في مقال نقدي سابق لروايته قطة فوق صفيح ساخن.

المكان هو المسرح الذي يلعب عليه الانسان أحداثه التاريخية، وهنا نجد الرواية تتنقل من مسرح الى مسرح، فمن مخيم حطين والذي اعتاد الناس على تسميته مخيم “شنلر” نسبة للمدرسة القريبة عليه، إلى عمَّان العاصمة فمطار الملكة علياء والذي أسماه الكاتب “مطار عمَّان الدولي” وصولا إلى مدينة أورفة في تركيا الى الانتقال للحديث عن تركيا وحمص، ثم الهجرة الى مدينتي كيبك ومونتريال في كندا، وحي لافال دورابيت، حي شومدي، ومجمع رغدان في العاصمة الاردنية عمَّان، ومقبرة كيبك/ لافال، وحديقة بريري.

هل هو الغباء أم الطمع؟ كيف يقع ثلاثة رجال في فخ شراء ذهب يذهبون اليه من عمَّان الى تركيا لمجرد أن من عرضه عليهم لاجئ سوري ادعى عبر مراسلات التواصل الاجتماعي أنه ملك أبيه الذي قتل في الحرب في سورية وأخذه اللاجئ معه الى تركيا ويريد بيعه، فيسافرون متحملين التكاليف ليقعوا ضحية عصابة نصب واحتيال، وأيوب المثقف الذي تعرض للنصب والاحتيال رفض أن يعود لمخيمه في الأردن وأخفى أوراقه وأدعى انه من مخيم اليرموك في سورية في محاولة للهجرة لأوروبا حتى ينال الموافقة على الهجرة الى كندا تاركا زوجته سعاد وأطفاله بالمعاناة، يلتقي مع شام المشرفة النفسية في مفوضية اللاجئين في أورفة في تركيا بعد استدعائها لمشاهدة أيوب تحت عبارة “فلسطيني حالته تصعب على الكافر”، لنجد حوار فلسفي ومرتفع مستوى الثقافة من اللحظة الأولى، وكل ما كان يعانيه أنه جائع ولم يتناول الطعام، فكيف تكون حالته تصعب على الكافر؟ فأيوب يتحدث عن معاناة المخيم وشام تتحدث عن المعاناة والحرب في بلدها وعن الذكور الذي لا يعرفون من المرأة إلا جسدها.

في الصفحة 105 نجد العبارة التالية: “من يقول أن للعرب حضارة مشرقة فهو واهن ولم ير قط حضارة كيبك”، وهذا يثير السؤال: ما هي حضارة مقاطعة كيبك والتي تأسست كمنطقة في عام 1534م حيث كانت تتنقل بين الهيمنة الفرنسية والانجليزية، وليس لها أي تميز حضاري سوى البناء والانفاق للقطارات في جو شديد البرودة  وهذا شيء لا مجال لمقارنته بالحضارة العربية منذ بنى الكنعانيون مدينة أريحا قبل اكثر من 10500 عام، وحلب وحضارتها كما دمشق أيضا، أما وصف الحال العربي في الفقرة التي تلت ذلك فهو منطقي وأشار لدور الغرب والدول الكبرى في تمزيق البلاد العرب الى دويلات وطوائف من خلال العمائم، لتحويل العرب إلى عبيد والاستيلاء على مقدراتهم الاقتصادية وتحويلهم الى أسواق استهلاكية فقط.

قضية اللاجئ الباحث عن الحب ليخفف من الوحدة في حياة جديدة يراها ويتخيلها أفضل من المعاناة في وطنه أو في الوطن الذي يحمل جنسيته هي محور الرواية الأساس، “هو الحب.. ذاك الغريب الذي يطل من النوافذ، الغامض في ليل وحدتنا الطويل” ص 200، فكانت تغريد العاملة في المفوضية تشتعل ناراً وترتكب مع أيوب الخطيئة في ظل وحدتها، وأنيس الجزائري في كندا، وشام الهاربة من وطنها حتى وصلت كندا بسبب المعارك التي امتدت على كل مساحات وطنها سورية بين النظام وقواته وحلفائه من جهة، وبين المتمردين والفصائل الكثيرة المدعومة والمسلحة من جهات عديدة لتنفيذ مخطط أمريكا، وتعيش الوحدة في كندا بعد أن هجرها زوجها وأخذ أطفالها، وتحلم بفارس يطفئ براكينها ورغباتها فتعشق أيوب الذي يحبها، وكان أيوب الذي هُجر أهله من فلسطين تحت عنف وجرائم الاحتلال الصهيوني، وسكن هو في مخيم حطين للنازحين، يعاني الفقر وإن كان يحمل الجنسية الأردنية وله حقوق المواطن الأردني حسب الدستور، وسمر الخمسينية التي تعيش في كندا وحيدة بعد حصولها على الهجرة بعد أن فقدت زوجها وابنها الوحيد غرقا في البحر في محاولة للوصول الى ألمانيا، والتي تتفجر براكين جسدها اشتهاء لأيوب جارها في الغربة وتنهي حياتها بشنق نفسها.

والكل يتجه الى دول يراها بعد أن يزول وهم الحلم كما ورد في ص 114: “تتفكك الأسر في دول تدعي حماية الأسرة، تفرض قوانين صارمة ضد من يقيد حرية الأطفال وتمنح البغاء شهادات عليا، أوطان تمزق وحدتنا، وغربة تنهش أواصر المحبة فيما بيننا”، وفي هذه الغربة وهذه البلاد الباردة التي لا يربطها رابط بالأوطان يتفجر الحب ويجد اللاجئون روابط تقربهم على بعضهم كما تقول شام في ص 166: “كنت أسمع عن النكبة وعن معاناة شعب فلسطين ولكني الآن لمست الألم بعد أن اقتربت أنت من قلبي،  وغادرت أنا عن وطني وعائلتي قسرا “، فتأخذ الرواية طابع الحوارية الراقية بين شام وأيوب، وتأخذ الرواية طابع سرد حكايات شخوص الرواية الذين تجمعهم الغربة وما عانوه في أوطانهم، ليقرر وباء “الكوفيد” الذي نشرته أمريكا في العالم نهاية الحب والغربة.

قد يختلف البعض مع مؤلفي الرواية وروايتهم، وقد يراها البعض رواية حقيقية، وقد يتهمهم آخرون أنهم قد باعوا أروحهم وأقلامهم، وكل سيكون موقفه متأثرا بحجم المأساة التي تعانيها سورية سواء كان موقفه مع النظام أو مع المتمردين ضد النظام أو مع الشعب الذي يدفع ثمن الصراع، وما عاناه الشعب الفلسطيني وما زال من بدايات الاحتلال البريطاني لفلسطين في بدايات القرن العشرين حتى الآن، لكن لا أحد يمكنه أن ينفي أن ما يجري مأساة كبيرة، وأن الضحايا هم الخاسرون، وأن الشعب والوطن هو من يعاني ويدفع الثمن، ولكننا بالتأكيد لن نختلف أن من واجب المبدع أن لا يقف صامتا أمام مأساة يعيشها شعبه، لكن الرواية مع اختلافي مع الكثير من المواقف السياسية التي وردت بها، رواية تستحق القراءة وأخذت الطابع الانساني والمشاعر الانسانية ومشاعر الحنين مع الحب والألم، بلغة قوية وعبارات مكثفة وفي العديد من الصفحات مازجت الروح الشعرية مع السرد، ممازجة الذاكرة مع الحاضر مع الغد.

والسؤال الذي سيبقى يطرح نفسه: لو استقرت الأمور في سورية هل سيعود كل من لجأ لتركيا والغرب وغيرها؟ وهل لو تحررت فلسطين سيعود كل أبناء الشتات لها؟ هذا السؤال الضمني في الرواية والذي تركه مراد وسهاد بدون إجابة في نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات.

“عمَّان 30/6/2024”

زر الذهاب إلى الأعلى