محمود شقير يستعرض رواية عدوان نمر عدوان “الموريسكي العائد من وجع الغياب”

في 120 صفحة من القطع المتوسط، الصادرة عام 2010، عن منشورات مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، فلسطين تبدأ رواية د. عدوان نمر عدوان بفقرة تمهيدية على لسان سارد لا نعرفه يعد حول تدوين قصته التي تنطوي على عجائب، منوهًا إلى أنه “ضد التدوين أو التسجيل الحرفي للأحداث”ص5
بعد ذلك، وتحت عنوان فرعي “حركة بزمط” يأخذنا الكاتب إلى مشهد من تاريخ الأندلس، حيث الظلم الذي ساد في غرناطة، وتمرُّد بزمط على السلطة الحاكمة، والتفاف الفقراء والمهمّشين من حول حركته، واضطرار عبد الله الصغير أن يفرج عن الفارس موسى ابن أبي غسان للتصدي لهذه الحركة.
ثم ينقلنا الكاتب إلى مشهد آخر كما لو أنه بذلك يمهّد للعجائب التي تشتمل عليها قصة بطل روايته؛ المشهد خاص بزوج من قرية الطيرة الفلسطينية، وهو الذي، من شدّة غيرته على زوجته الجميلة، أطلق النار على البحر حين شاهده وهو يداعب ساقي زوجته.
2
هنا بعد تلك الأحداث التي تبدو غير مترابطة لولا عنصر التمهيد الذي ذكرناه، نتعرّف إلى السارد الذي ينتمي إلى قرية من قرى مدينة نابلس اسمها عقاب لحمر، وهو يتحدث بإطراء عن اهتمام أهل قريته بالزراعة وبانتمائهم للأرض، ثم يلقي ضوءًا كافيًا على شخصية أبي جحدر الساخر سليط اللسان، ويذكر بعض سخرياته واجتهاداته حول الجنس والقدرة الجنسية والخصاء والعبيد وشهوات النساء، وحول أهمية اقتران الحب والجنس معًا على النحو الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش.
وبعد إضاءة سريعة على تاريخ قريته أيام حكم العثمانيين يعود بنا السارد إلى الزمن الحديث، وعبر أسلوب التوالد السردي، حيث يولد السرد من السرد، نرى السارد وقد انتقل إلى نابلس للدراسة في مدارسها، وللتعرف إلى نماذج بشرية يكون له معها حوارات كاشفة، مثلًا: سعيد الذي تستهويه القصص وحب الثقافة وملاحقة النساء، والنفور من مصنع أبيه الذي يستغل العمال، علمًا بأن جدّه جبّار كان مع الثوار ضد الانكليز، الذين قبضوا عليه وأعدموه. ومثلًا: السامري كامل الذي لا يعترف بدولة إسرائيل، وينكر وجود الهيكل في القدس، لكنه يؤمن بوجوده في جبل جيرزيم في نابلس.
3
ومن خلال تقنية التوالد السردي ذاتها، وعبر لغة السرد الجميلة، وبالتداخل ما بين الماضي والحاضر، ينتقل السارد موسى عمران إلى غرناطة لدراسة الماجستير في جامعتها.
اختيار غرناطة ليس فقط بسبب تشابه طبيعتها الجغرافية مع طبيعة الجغرافية الفلسطينية، بل ربما لتشابه المعاناة السياسية من بعض الأوجه. ولدى استرسال السارد في وصف جمال غرناطة وما حولها من سهول وجبال نجد أنفسنا وقد دخلنا فجأة في إطار أدب الرحلات، حيث الوصف اللافت للأمكنة ولمنجزات الحضارة الإسلامية فيها.
وفي هذا المقطع من الرواية يتعرّف السارد إلى طالب جامعي إيطالي له حضور بارز في النص، اسمه جاكبو، له مغامرات مستمرة مع النساء، كما يتعرّف السارد إلى الفتاة الجميلة المدهشة جيسكا، التي أحبته وأحبها.
4
تزدحم الرواية بتفاصيل كثيرة، وبكثير من الاستشهادات الفكرية من مفكرين آخرين، وتلفت النظر الحوارات التي تدور بين شخوص الرواية، فهي تتسم بالعمق وتكشف بعض أفكار الكاتب، وتدلّل على اتساع ثقافته.
وما يلفت النظر بحق في هذه الرواية فكرة اختراق الزمن ص66، والتحدّث مع شخصية من القرون الوسطى ، تلك الفكرة التي وردت في رواية الياباني توشيكازو كاواجوتشي الموسومة ب “قبل أن تبرد القهوة” الصادرة عام 2015 أي بعد رواية د. عدوان عدوان بخمس سنوات، حيث المقهى الذي يتيح لأي شخص أن يسافر عبر الزمن الماضي للتحدّث إلى شخص آخر لم يعد موجودًا على قيد الحياة، وحيث عليه أن يعود إلى الزمن الحاضر قبل أن يبرد فنجان قهوته الذي تقدّمه له نادلة المقهى، وإلا فسوف يبقى هناك في الماضي.
ينتقل السرد في رواية د. عدوان عدوان على لسان الطبيب المغربي الطاهر بن علون الذي يروي عن موسى بن أبي غسان، هذا الفارس الذي لم يستسلم أمام الجيش الإسباني الذي حاصر غرناطة، وجعل أهلها يعيشون سبعة أشهر في مجاعة لم يحدث ما يماثلها من قبل (مجاعة رهيبة تذكّرنا بمجاعة الفلسطينيين في قطاع غزة الآن).
وفي الأثناء، يتكشّف السرد عن قصة حب مدهشة بين موسى بن أبي غسان وفيكتوريا الجميلة التي أهدته خاتمًا ظل محتفظًا به، وأهداها وشاحًا ظلت ترتديه حتى أدركها الموت. ومن المشاهد المؤثرة في الرواية أن الفارس الشجاع موسى الذي آثر الغرق في ماء النهر على الاستسلام، امتنع حصانه الوفي عن تناول الطعام إلى أن ذوى ومات.
5
أخيرًا، يعود بنا السرد إلى فلسطين، حيث تأتي الغرناطيّة جيسكا زائرة إلى القدس وبيت لحم، لتلتقي حبيبها موسى عمران، ثم تنتظر السماح لها بالانتقال إلى نابلس مع فريق من المتطوّعين والمتطوّعات، وهي التي ظهرت في الرواية على نحو متميز جعلها من النماذج النسائية الفنية التي لا تُنسى.
وحين اقتحمت دبابات المحتلّين الإسرائيليين مدينة نابلس فقد قتلت الدبابات وجرحت أعدادًا من المدنيين الأبرياء، ومن ضمنهم تلك الغرناطيّة التي كانت ضد الاحتلال وممارساته التعسفية، ولهذا جاءت من بلادها للتضامن مع شعب فلسطين ولمساندته في نضاله ضد العدوان.
محمود شقير