لم تعد خبيرا تربويا
حسني عايش
في سنة 1987 ولا أذكر اليوم والشهر، دعت الدكتورة ماوية أبو غنيمة إلى عقد ندوة خاصة بالتربية والتعليم، وقد اقترحتُ عليها أن يكون عنوانها «المدرسة التي نريد» وهكذا كان، وقد انعقدت الندوة وكثر فيها المتحدثون وكثرت فيها الأوراق. وكان كل مشارك يعتقد أنه يعرف المدرسة التي يريد من خبرته في التربية والتعليم. ما أسهل على الناس، كل الناس، الحديث في هذا الموضوع، لأن «كلاً منهم يعتقد أنه يفهم في التربية والتعليم ويستطيع التحدث فيهما لأنه تعلّم في المدرسة. كنا في تلك الفترة نظن أن المدرسة التي نريد هي امتداد أو تطوير للمدرسة التي نعرفها. المدرسة التي تعلمنا فيها.
كانت الأمور واضحة، والمطلوب إدخال تحسينات او تغييرات مكياجية عليها. واختتمت الندوة ومرّ الوقت وكأن الندوة لم تكن، كما هو الحال في الندوات والمنتديات والمحاضرات وحتى الكتب والمقالات.
أما اليوم وبعد نحو أربعين عاماً من تلك الندوة الثرية والجميلة، فقد تغيرت المدرسة بالتكنولوجيا الرقمية. لم نعد نعرف المدرسة التي نريد. كل خبراتنا السابقة عن المدرسة لم تعد تنفع في تحديد المدرسة التي نريد. ومن ثم لا يوجد خبراء فيها، ولا يليق وصف المتحدثين عن المدرسة تسمية أنفسهم أو تسمية الصحافة أو الإذاعة أو التلفزيون لهم بالخبراء في التعليم. إنهم مثلي ومثلك جهلة تماما بمدرسة الغد.
ولكن مدرسة الغد آتية بسرعة لا ريب فيها، بل إن بدايات كثيرة منها بدأت تطل برأسها، وبخاصة في فنلندا وأميركا، فنحن نعيش في هذا العصر السريع الإيقاع. يتوقع المفكرون التربويون أن تكون مدرسة الغد افتراضية (Virtual School) بلا مكان وبلا جدران وربما بلا زمان، لأن كل طفل/ة أو كل واحد/ة في أي وقت يستطيع أن يلتحق بها عندما يريد.
نعم، إنهم الآن يرتبونها صفياً وسنوياً، ولها مديرون ومعلمون ومعلمات يعلمون وتلاميذ وتلميذات يتعلمون وكأنهم داخل المدرسة، لكن هناك من يتنبأ بقلة الحاجة إلى المعلمين والمعلمات في المستقبل المنظور لأن الإنسان الآلي (Robot) سيحل محل كثير منهم. أي أنه سيأتي – ولعله آت قريباً – زمان لا يقف معلم/ة في الصف أمام تلاميذ وتلميذات يجلسون على صفوف من المقاعد تلكم. مدرسة الأمس التي أنتجتها الثورة الصناعية بالمصنع وخط الإنتاج.
وهكذا صارت البلدان المتقدمة وبخاصة في أوروبا وأميركا تجرب مدرسياً نحو صيرورة مدرسية مختلفة على نحو ما، ومع ذلك صار الطفل/ة بوصلة إلكترونية للكمبيوتر بالكهرباء يتفاعل مع المعلم/ة وزملائه وكأنه معهم وبينهم. ولم لا. لقد أصبح كثير من الأعمال يتم عن بعد. من البيت وأمازون في الأردن شاهد عليه. المهندس يزن يعمل في أميركا وهو في عمان. كما أن المحاسبة في كثير من الشركات الأميركية تتم في الهند، مما أوجد مشكلة اقتصادية جديدة: هل يمكن حساب ذلك كجزء من الاقتصاد الأميركي أم الهندي أم من كليهما؟ كما صار الاقتراع في أميركا يتم إلكترونياً أي عن بعد لمن يرغب في ذلك.
وفي أستراليا تجربة مدرسية رقمية اسمها مدرسة الهواء (School on the Air) توفر تعليماً مكتملاً لتلاميذها وتلميذاتها عن بعد لأن كثيراً منهم يعيشون في أماكن بعيدة عنها.
يأخذ ناقدون للمدرسة الرقمية تقصيرها في تعليم مهارة الكتابة اللمس (Touch Typing) مع أنها مهارة في غاية الأهمية، لأن المقصر فيها يخسر لصالح متقنها الأسرع منه فيها ونحن في عصر البقاء للأسرع كما يقول ألفن توفلر.
في ظل هذا التغير القادم الجارف تطرح أسئلة وتساؤلات كثيرة حول المناهج والمواد والكتب المدرسية والواجبات المدرسية البيتية، والامتحانات المدرسية…. والذكاء الاصطناعي. أي في كيفية دمج التقنية الرقمية في التربية والتعليم، أو دمج التربية والتعليم في التقنية الرقمية، ودور الأسرة في هذا التعليم ما دام الطفل سيتعلم وهو في البيت.
أرى من خلال التقنية الجديدة أنه قد يأتي عصر لا يخرج فيه الناس من بيوتهم لأن كل شيء سيتم أو سيصل عن بعد. كما أنهم لن يحتاجوا كثيراً إلى التفكير، لأن التفكير الاصطناعي سيفكر عنهم. وبعبارة أخرى سيكون الابتكار / الإبداع هو المتطلب الأول اللازم للتقدم والازدهار.
إننا على أبواب عصر مدرسي جديد وعصر رقمي جديد بإيجابياته وسلبياته كما في كل تحول تكنولوجي، فالتكنولوجيا هي صانعة التاريخ.
الغد