قراءة نقدية في ديوان “درج العتمة” للشاعر هشام عودة

د. ريمان عاشور

ليس من شكٍّ بأنَّ بعض العاهات الجسديَّة التي تصيب الإنسان تؤثِّر فيه تأثيرًا بائنًا، سواء أكان هذا التأثير إيجابيًّا أم سلبيًّا، بيد أنَّها تُخرجه عن السرب وتجعله منزويًا في ركنٍ يميِّزه وحده..

ولقد أبى الشاعر هشام عودة أن يستسلم لظلمة العمى، فراح يُنير عالمه المظلم بقناديل أشعاره التي أنارت بعضًا من ظلامه كما صدحت معبِّرة عما يدور في خلده ويعتريه؛ ليثبت أنَّ العين ما هي إلا عضو يؤدِّي وظيفته التي سخَّره الله عزَّ وجلّ أَجْلَ تحقيقها، وأنَّ تعطُّلها لا يعني ألبتة أنَّ القلب أيضًا قد أصيب بالعمى، بل إنه مضغة تتخذ مكانًا لإنارة البصيرة وقيادتها قيادةً ذات بُعد عميق متجاوزًا عمى العين وكفافها.

ولأنَّ اللغة هي مفتاح الولوج إلى بعض عوالمنا النفسيَّة والشعوريَّة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، تلتقط ذبذباتها وتترجمها حروفًا وأصواتًا مفهومة ومدرَكة؛ فإنَّها بذلك تُعَدُّ المجهر الكاشف الصادق عمَّا يدور بخلدنا، نطوِّعها قدر الإمكان للكشف عمَّا وراء سجوف تلك العوالم المعقَّدة، المرهونة بعوامل كثيرة ومتباينة، كوننا أفرادًا من جهة، كما أنَّنا أعضاء نؤثِّر في مجتمع نعيش فيه ونتأثَّر به، في وقتٍ نخضع لقوانينه وسياقاته ومتغيراته من جهة أخرى..

لقد جاء العنوان في ديوان الشاعر هشام عودة الموسوم بــ “درج العتمة” لافتًا مثيرًا للدهشة..

فلنبدأ به متأمِّلين : درج العتمة..

حيث جاء الدَّرج في لسان العرب:

“درج: دُرَجُ الْبِنَاءِ وَدُرَّجُهُ ، بِالتَّثْقِيلِ: مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، وَاحِدَتُهُ دَرَجَةٌ وَدُرَجَةٌ مِثَالُ هُمَزَةٍ ، الْأَخِيرَةُ عَنْ ثَعْلَبٍ.؛وَالدَّرَجَةُ: الرِّفْعَةُ فِي الْمَنْزِلَةِ.؛وَالدَّرَجَةُ: الْمِرْقَاةُ.؛وَالدَّرَجَةُ وَاحِدَةُ الدَّرَجَاتِ ، وَهِيَ الطَّبَقَاتُ مِنَ الْمَرَاتِبِ.؛وَالدَّرَجَةُ: الْمَنْزِلَةُ ، وَالْجَمْعُ دَرَجٌ”

والمتأمِّل في سيميائية عنوان الديوان وعلامته، يقف عند تدرُّج في الارتقاء بين العنوانات الداخلية للقصائد الواردة والمختارة في ديوان هشام عودة هذا، حيث تتداخل وتُشيَّد بعضها فوق بعض كما تعتلي الدرجة سابقتها، لتنشىء الدرَج الذي نألفه ويحملنا من قاع البناء إلى أعلاه أو العكس إن أردنا الهبوط.

بيدَ أنَّ المفارقة تفاجئنا بغيةَ استيقافنا واستنهاض الهمَّة للحفر أعمق، إن ما توقفنا عند المضاف إليه في هذا العنوان، تحديدًا عند كلمة “العتمة” التي جاءت مادتها في لسان العرب: “عتم: عَتَمَ الرَّجُلُ عَنِ الشَّيْءِ يَعْتِمُ وَعَتَّمَ: ڪَفَّ عَنْهُ بَعْدَ الْمُضِيِّ فِيهِ، قَاْلَ الْأَزْهَرِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ عَتَّمَ تَعْتِيمًا، وَقِيلَ: عَتَّمَ احْتَبَسَ عَنْ فِعْلِ الشَّيْءِ يُرِيدُهُ، وَعَتَمَ عَنِ الشَّيْءِ يَعْتِمُ وَأَعْتَمَ وَعَتَّمَ: أَبْطَأَ وَالِاسْمُ الْعَتَمُ، وَعَتَمَ قِرَاهُ: أَخَّرَهُ، وَقِرًى عَاتِمٌ وَمُعَتَّمٌ: بَطِيءٌ مُمْسٍ وَقَدْ عَتَمَ قِرَاهُ، وَأَعْتَمَهُ صَاحِبُهُ وَعَتَّمَهُ، أَيْ: أَخَّرَهُ” إذ كيف تُسنَد العتمة في معناها الذي يُفصح عن الكفِّ عن فعل الشيء، وحبسه وسجنه في صدر صاحبه، في الوقت الذي جاء المسند إليه “درج” كاشفًا عكس المعنى، راحلًا بنا إلى تصوُّر الحركة الدؤوبة، وحاثًّا إيانا على الصعود أو الهبوط! فلو كان العنوان: درج الظلمة أو درج الظلام، لما كانت المفارقة حادثة على هذا النحو؛ ذلك أنَّ الظلام يسود في زمنِ الليل المحدَّد والمنتهي عند بزوغ الشمس التي تبدِّده وتلاشيه، بينما العتمة كفُّ النور إلى أجلٍ غير مسمَّى.

لعلَّ هذا التنافر في معنى التركيب اللغويِّ، هو ما قد يُحدث إرباكًا في نفس المتلقي منذ العتبة الأولى، دافعًا إياه إلى الإبحار بين أمواج هشام عودة وسطوره التي تراوحت بين الذاتيِّ المتمثِّل في معاناته الإنسانيَّة، شاعرًا هوى رهين الظلمة، والعام المؤثِّر عليه أيضًا كونه شاعرًا قوميًّا واعيًا، وشلوًا لا ينسلخ عن قضايا الوطن وهمومه..

وقد جاء الديوان في ستة نصوصٍ طويلة تشترك في قاسم مشترك واحدٍ يتقاطع في عنواناتها: سطور العتمة، وسطور الأرض، وسطور الفتى، وسطور الوجد، وسطور البحر، وسطور أخرى..

وإن أمعنا النظر في العنوانات الفرعية فإنَّ الهيكل الخارجي للديوان ينرسم أمامنا رسمًا هندسيًّا مقسَّمًا بين العمودي، الذي صوَّرته كلمة “درج”، والأفقي الذي رسمته كلمة”سطور”. وهما لفظتان تجتمعان على الكثرة والتكرار والإلحاح على المعنى المسيطر على الشاعر والمندثر في لا وعيه.

وقد جاءت مادة “سطر” في لسان العرب: “سطر: السَّطْرُ وَالسَّطْرُ: الصَّفُّ مِنَ الْكِتَابِ وَالشَّجَرِ وَالنَّخْلِ وَنَحْوِهَا. وقد وردتْ تلك اللفظة على هيئة جمعٍ فأفادتْ الكثرة والوفرة والتكرار الملِحَّ على المعنى، الذي كاد يدنو من ذات الشاعر دنوًّا لافتًا حين أضحت قصائد عودة في مجملها صادقة في سبر حالته الشعوريَّة الحقيقيَّة. وكأنَّه راح يخطُّ سيرته الذاتيَّة بأسلوبٍ شعريٍّ، ألفينا فيه روح الحكاية، والقصَّ، حينما تنقَّلنا بين عناصر قصصيَّة كالحوار، والزمان، والمكان.

هشام عودة شاعر الوطن في نهاية المطاف وأوَّله، فقصيده لا ينقطع فيها وتين الوطن، تجري دماؤه في حروفه وإن تنقَّل بين الذاتيِّ والعام، يعيدُ سفنه ثانية لترسو على شواطىء القدس. فحلم العودة إلى القدس مهيمنٌ على حروفه وموضوعاته مهما ارتحل عنها، لنجدَ القدسَ وجهتنا الأخيرة وقبلتنا الأولى التي نولِّى إليها وجوهنا كلَّما وقفنا عند نصوص هشام عودة..

هو شاعر الوطن وإن أحزنه العمى، وهو شاعر الوطن وإن استباح أركانه المظلمة، وهو شاعر الوطن وإن استدعى المحبوبة، وهو شاعر الوطن كلَّما أعلن عن إيمانه ويقينه بأنَّ الأقصى حلمٌ، تحقيق العودة إليه أمرٌ لا فرار منه ولا إنكار لحقيقته. تمامًا كحقيقة بزوغ الشمس كلِّ أول نهار، وحقيقة وجود الله الخالق الكون ومن عليه..

هو هكذا هشام عودة.. شاعرٌ على جناحي وطنٍ ،آملًا بالعودة إليه أملًا لا يشوبه شكٌّ أو ريب .

زر الذهاب إلى الأعلى