في ذكرى انطلاق الثورة الجزائرية..

محمد سعيد حمادة*

صادفت أمس الأربعاء الذكرى الثالثة والستون لانطلاق شرارة الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي. هذا اليوم المقدّس عند الجزائريين، وعند أبناء المغرب العربي عمومًا، لما للثورة الجزائرية من فضل في المغرب كلّه.

الأول من نوفمبر يوم أغرّ في وجدان احرار العالم كلّه، وليس في وجدان أبناء المغرب أو العالم العربيّ وحسب؛ فالثورة الجزائرية كانت مبدعة بطريقة خيالية، على جميع الصعد، التنظيمية والحربية والسياسية. والرجال والنساء الذين واللواتي ذلّلوا الموت وردموا حفره المخيفة بأرواحهم العالية، كانوا وما زالوا مثلاً عالميًّا فريدًا في التاريخ الإنسانيّ، لم تجارهم فيه أمّة ولم يرْقَ إليه شعب. ففي عزّ حلف شمال الأطلسيّ وطغيانه استطاع أحرار الجزائر كسر أنفه، وبديناميكية عالية فائقة التصوّر أفشلوا خططه الدموية التي لا تبقي على بشر ولا شجر ولا حجر، وردّوا سياسة الأرض المحروقة حريقًا في قلوب وعقول المستعمرين الفرنسيين وحلفائهم الغربيين، وحوّلوا أسطورة ديغول وجنرالاته المتوحّشين أضحوكة، لخّصتها الابتسامة الساخرة لأحد مفجّري الثورة العربي بن مهيدي وهو يستعدّ لمواجهة الموت تعذيبًا وحشيًّا أرغم الجنرال الفرنسيّ مارسيل بيجار على الاعتراف أنه سلخ جلد وجه العربي بن مهيدي ولم يستطع أخذ اعتراف واحد منه، ممّا اضطرّه لتأدية التحيّة له، وقول كلمته الشهيرة أنه لو كان لديه ثلّة قليلة من أمثال بن مهيدي لغزا العالم.

لم يكن بن مهيدي ورفقاؤه أقلّ بأسًا وحنكة وبطولة من تشي غيفارا أو هوشي منه أو كلّ الرموز العالمية التي أصبحت أيقونات ثورية، لا بل إن غيفارا نفسه كان معجبًا إلى درجة الذهول بحنكة وبأس الجزائريين الذين كان عندهم آلاف الغيفارات. وهذا ليس إنشاء لغويًّا، فمن يطّلع على تفاصيل الثورة الجزائرية سيرى كم كانت الجزائر ولاّدة لقيادات ذكيّة ونادرة، يذهب منها فوج فتأتي أفواج لتكمل بكلّ إقدام وتفان وعزم.

لقد تسنّى لي معرفة الكثير من التفاصيل عن الثوررة وقياداتها من العقيد صالح بو جمعة، أطال الله عمره، أحد قيادات وأطر الثورة الذين واكبوها منذ ما قبل اليوم الأول من تفجيرها في الأول من نوفمبر في الشمال القسنطيني، وعرف قيادات كان قريبًا منها ومساعدًا لها، كديدوش مراد وزيغود يوسف وصوت العرب بوبنيدر وبن طوبال وغيرهم، وفتح لي أفقًا للاطّلاع على تفاصيل كثيرة أولعت بها، وكأنني أحد المشاركين بصناعتها، قبل ولادتي بأعوام كثيرة؛ فقرأت وراجعت ودقّقت وانفعلت وتأثّرت، لدرجة أنني أحسّ ان جزءًا جزائريًّا أصبح ثابتًا وأصيلاً فيّ.

كلّما مرّ هذا اليوم، أو ذكرت الجزائر، يحضر السؤال المؤرّق: ما الذي فعلنا بأنفسنا؟ خمسة عقود تكفي لنهضة أيّ أمّة، وقد كانت كافية لمزيد من التأزيم والتراجع لنا!! فلماذا جلبنا على أنفسنا هذا الويل في المشرق والمغرب؟ دعوات انفصالية انعزالية هنا وهناك، وقد كان آباء أصحاب هذه الدعوات وأجدادهم في طليعة الداعين إلى الوحدة والفداء!! لا شكّ أننا أخطانا كثيرًا بحقّ أنفسنا حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، هنا وهناك.

لقد كان ثلاثة من أصل ستة رجال اتّخذوا قرار الثورة في الجزائر من أبناء القبائل، وذهب الآلاف منهم شهداء في سبيل الجزائر، وليس في سبيل منطقة أو لغة أو نزعة أثنية أو انفصالية، فما الذي تغيّر؟ إنها السياسات التي راكمت الغبن حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، مهما كانت مبرّرات المبرّرين والذين لا يريدون الاعتراف بفشل سياسات أفسحت في المجال لأفكار دخيلة أو كانت سببًا مساعدًا في تمرير “المؤامرة” التي نتذرّع بها.

في المشرق دعوات انفصالية يستغربها السوريون. صحيح أن الظروف والعوامل تغيّرت، ونشأ جيل جديد متأثر بهرطقات وأساطير عرقية، لكنني لا أشكّ أبدًا أن سياساتنا السابقة كانت السماد الداعم لمثل هذه الدعوات، ذلك أن حكوماتنا لم تكن لتفعل شيئًا سوى اللعب على المتناقضات، أثنيًّا وطائفيًّا، ولم نؤسّس في أيام القوّة لمثل هذه الأيام. فكما كان ثلاثة من أبناء القبائل من مفجّري الثورة الجزائرية، كان فتحي كيتكاني الذي لا يغيب مثله عن ذهني أحد الأركان المؤسسين لـ”حركة القوميين العرب” وقبلها لـ”منظّمة الثأر العربي” والمقاتل في “كتائب الفداء القوميّ”، وهو ابن رئيس أكبر عشيرة كردية في سوريا!!

هل سنكون من الشجاعة بمكان نراجع فيه حساباتنا، ونقف وقفة مسؤولة أمام مرآة وجداننا كي نقطع الطريق على القادم الأسوأ الذي يحضّر لنا؟

*كاتب وناشط سياسي سوري مقيم في دمشق

زر الذهاب إلى الأعلى