فلسطينيو الداخل وانتخابات الكنيست الاسرائيلي‎ ‎‏

‏بقلم: الدكتور اياد البرغوثي

أما وقد وضعت الانتخابات الأخيرة للكنيست الاسرائيلي “اوزارها”، وهدأ التوتر السياسي والضجيج ‏الاعلامي الذي رافقها، فنعتقد أنه حان الوقت كي يدرس الفلسطينيون مسألة الموقف من الكنيست من ‏جذوره، بهدوء وعقلانية وعمق ومسؤولية وبمرجعية وطنية فلسطينية عامة، غير فئوية، لا يكون واردا في ‏حسابات القائمين عليها الميل المسبق لموقف أي من الأطراف المشاركة أو المقاطعة، بل حوار غايته ‏المصلحة الفلسطينية العليا التي تنتصر لفلسطين القضية ولفلسطين الإنسان، والمتناقضة بالضرورة مع ‏المشروع الصهيوني.‏

عند كل مرة تجري فيها انتخابات الكنيست الاسرائيلي، ينقسم الفلسطينيون ليس فقط حول من عليهم ‏الوقوف الى جانبه في هذه الانتخابات، بل وحول المشاركة فيها أو مقاطعتها من حيث المبدأ.‏

بعد انشاء اسرائيل تم انتزاع معظم الفلسطينيين من وطنهم وأصبحوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة ‏وفي كثير من بلدان العالم الأخرى، وبقيت قلة قليلة منهم (حوالي 150 ألفا) في فلسطين تحت الاحتلال ‏الاسرائيلي. لقد مزقت النكبة المجتمع الفلسطيني الى مجتمعات فلسطينية في بلاد مختلفة، وتشكل لكل ‏مجتمع من هذه المجتمعات سوسيولوجيا سياسية مختلفة، ويحسب لمنظمة التحرير الفلسطينية أنها اعادت ‏تجميع الشعب الفلسطيني على استراتيجيا تحرير فلسطين التي شكلت جزءا جوهريا من هويتهم التي سلبتها ‏النكبة وما ترتب عليها.‏

في كل مكان وجد فيه الفلسطينيون بعد النكبة برزت مسألة العلاقة بين متطلبات حياتهم اليومية وبين ‏متطلبات قضيتهم الكبرى. هذه المسألة كانت أكثر وضوحا وحدة لدى ذلك القسم من الفلسطينيين الذي بقي ‏في أرضه المحتلة بعد النكبة، حيث عملت اسرائيل على تدجينهم والهيمنة عليهم ومحو هويتهم الوطنية بكل ‏الوسائل. كانت السياسة الاسرائيلية، وما زالت، تتمثل في وضع الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما، حياته ‏اليومية أو قضيته الوطنية.. وبنت كل سياساتها واجراءاتها، اغراءاتها وتهديداتها، حيال الفلسطينيين على ‏هذه القاعدة.‏

تبرز اشكالية اليومي والاستراتيجي، أو ما يفهم لدى الفلسطينيين في “اسرائيل” بالعلاقة بين المدني ‏والوطني في اوضح صورها عند إجراء انتخابات الكنيست الاسرائيلي، حيث انقسم هؤلاء – إذا ما استثنينا ‏أولئك الذين تماهوا مع المشروع الصهيوني منذ انشاء اسرائيل وحتى قبل انشائها- الى رافضين للمشاركة ‏في النظام السياسي الاسرائيلي وخاصة في موضوع الكنيست، وإلى المشاركين فيه جزئيا أو كليا. ولكي ‏نكون منصفين في رأينا حول المقاطعين والمشاركين، فإن بين هؤلاء واؤلئك من يفسر مقاطعته أو مشاركته ‏على قاعدة الوطنية الفلسطينية، وهذا ما يمثل قاعدة جيدة للحوار بين الطرفين للوصول إلى مشترك يخدم ‏الفلسطينيين في الداخل وقضيتهم الوطنية.‏

السؤال الأهم في هذا المقال، ما إذا كان فلسطينيو الداخل “أسرى” هذه الثنائية، المقاطعة أو المشاركة، ام ‏انه قد يكون بالإمكان التفكير في مواقف وسياسات ابداعية، تأخذ بالاعتبار ضرورة عدم المس بالوطني بأي ‏شكل من الأشكال، وتحقق الحد الأقصى من الحقوق المدنية المطلوبة للبقاء في وطنهم التاريخي، وتبقيهم ‏كتلة موحدة مع بقية الشعب الفلسطيني.‏

ولكي يكون النقاش علميا ومجديا ووطنيا لا بد من منطلقات يتفق عليها الفلسطينيون كأسس للنقاش تتعلق ‏بفهمهم المشترك لإسرائيل ونظامها السياسي وسياساتها تجاه الفلسطينيين في الداخل وما الذي تريده منهم، ‏وكذلك بفهم الفلسطينيين لأنفسهم في علاقتهم باسرائيل وبالمشروع الصهيوني ككل. وقبل هذا وذاك لا بد ‏من معرفة بالمواقف التي اتخذها الفلسطينيون في الداخل من انتخابات الكنيست منذ نشأتها، وكيف يرى ‏المقاطعون اسباب مقاطعتهم وكذلك بالنسبة للمشاركين.‏

الفلسطينيون في “اسرائيل” والكنيست.. البدايات

لنا أن نتخيل الوضع السياسي والاجتماعي والمعيشي والنفسي للأقلية من الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم ‏بعد انشاء الدولة الاسرائيلية عام 1948. في مثل هذا الوضع شاركت فئتان منهم في انتخابات الكنيست ‏الاسرائيلي الأولى التي جرت في الشهر الأول من العام 1949، أي سبعة أشهر بعد تأسيس اسرائيل، ‏الفئة الأولى هي اولئك الذين “تعاونوا” مع المنظمات الصهيونية في نزاعها مع الحركة الوطنية ‏الفلسطينية، حيث تم استخدام أسماء عربية (القائمة الديمقراطية لعرب اسرائيل) على سبيل المثال، لكن كان ‏ذلك بدعم من الحزب الصهيوني الأساسي مباي برئاسة بن غوريون في حينه.‏

أما الفئة الثانية من الفلسطينيين التي شاركت في تلك الانتخابات فكانت من أعضاء الحزب الشيوعي الذين ‏اختلفت منطلقاتهم الايديولوجية والسياسية للمشاركة عن منطلقات الفئة الأولى. نشير الى أن هذا المقال لا ‏يهدف الى تقييم دور النواب الفلسطينيين في الكنيست لكن نرى من واجبنا أن نشير الى أنه بغض النظر ‏عن مدى القناعة بمنطلقات الشيوعيين للمشاركة فإن كثيرا من الفلسطينيين يثمنون الدور الوطني لنوابهم ‏في تلك الفترة.‏

استمرت مشاركة هاتين الفئتين من الفلسطينيين في الكنيست الى العام 1984، ثم ابتدأ آخرون بالمشاركة ‏فشكل محمد ميعاري الحركة العربية التقدمية وأصبح عضوا في الكنيست، ثم أسس عبد الوهاب دراوشة ‏الذي استقال من حزب العمل الاسرائيلي الحزب الديمقراطي العربي في العام 1988. وفي العام 1995 ‏أسس عزمي بشارة حزب التجمع الوطني الديمقراطي وبعد ذلك بعام واحد أسس أحمد الطيبي الحركة ‏العربية للتغيير، كما شاركت الحركة الاسلامية الفرع الجنوبي في انتخابات الكنيست في العام 1996.‏

من الضروري أن نشير الى أن نسبة مشاركة الفلسطينيين في التصويت للدورات الأولى لانتخابات ‏الكنيست كانت مرتفعة جدا. يبدو ذلك غريبا لكن البعض عزاه الى سياسات الحكم العسكري للضغط على ‏‏”العرب” من أجل المشاركة، حيث استمرت تلك النسبة مرتفعة الى ما بعد الغاء الحكم العسكري على ‏فلسطينيي الداخل في العام 1967.‏

أما اولئك الفلسطينيين في الداخل الذين وقفوا ضد المشاركة في انتخابات الكنيست انطلاقا من أن ذلك ‏يتعارض مع التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني، فقد قاموا بعدة محاولات لتنظيم صفوفهم فتأسست الجبهة ‏الشعبية العربية التي تشكلت من بعض القوميين الناصريين والشيوعيين في العام 1956 حيث استمرت ‏لعامين، ثم تأسست حركة الأرض من الناصريين لوحدهم بعد خلافات مع شركائهم الشيوعيين في العام ‏‏1958. كذلك تعتبر حركة ابناء البلد التي تأسست في العام 1972 من الحركات الناشطة في مجال مقاطعة ‏الكنيست حيث اعتبرت اسرائيل “مستوطنة كبيرة لا يجوز التعامل معها”.‏

اسرائيل بالنسبة للفلسطينيين ‏

لكي يناقش الفلسطينيون موقفهم من أي أمر يتعلق باسرائيل- انتخابات الكنيست في هذه الحالة- يجب أن ‏يكونوا على دراية كاملة بجوهر اسرائيل، وأن لا يغيب عن ذهنهم ابدا موقفها منهم ومن شعبهم الفلسطيني، ‏ثم يقررون الموقف الذي يريدون. بمعنى أنه يجب أن يفهم الفلسطينيون اسرائيل على حقيقتها قبل اتخاذ أي ‏قرار بشكل التعاطي معها وليس العكس، أي أن يتم ذلك بناء على شكل الرغبة في التعاطي معها التلاعب ‏في فهم حقيقتها.‏

فاسرائيل بالنسبة للفلسطينيين دولة مغتصبة لحقوقهم، حطمت بالقوة املهم في الاستقلال وبناء دولتهم ‏الوطنية على أرضهم التاريخية، لا يوجد لها أية شرعية. وهي أداة للمشروع الامبريالي الغربي للهيمنة على ‏المنطقة بأكملها. وهي دولة للمستوطنين الصهاينة تحمل ايديولوجيا عنصرية وتسن القوانين لكي تجعل ‏منهم عنصرا فوق الجميع.‏

من أجل ذلك عملت اسرائيل على محو الهوية الفلسطينية والرواية الفلسطينية. وقسمت ابناء الشعب ‏الفلسطيني في الداخل الى طوائف مختلفة. لقد أقرت اسرائيل قانون يهودية الدولة، وقانون النكبة في العام ‏‏2011 لتمنع الفلسطينيين من احياء ذكرى النكبة، وحطت من مكانة اللغة العربية بعد أن كانت لغة رسمية ‏ثانية في اسرائيل… لقد تم منح اليهود فقط حق تقرير المصير أما غيرهم من المواطنين فلا ينطبق عليهم ‏ذلك.‏

بعد كل الذي مارسته اسرائيل على الفلسطينيين في داخلها وفي الاراضي المحتلة في العام 1967 وفي ‏الشتات، وبعد كل الذي قدمه الفلسطينيون من تنازلات في أوسلو وما قبلها وما بعدها، أصبح من المخجل ‏والمعيب أن يبقوا مختلفين على جوهرها حتى الآن.‏

المقاطعة أم المشاركة.. ما الفائدة؟

قبل الإجابة عن سؤال ما الذي يمكن أن يجنيه الفلسطينيون من المشاركة أو عدم المشاركة في الكنيست، ‏ربما يفترض التفكير في السؤال المقابل وهو ما الذي استفادته أو تستفيده اسرائيل من تمكين فلسطينيي ‏الداخل من المشاركة في تلك الانتخابات؟ من البديهي أن الوجود الفلسطيني داخل اسرائيل يشكل عبئا ‏ثقيلا بالنسبة لها، لكنها تعتبر مشاركتهم في انتخابات الكنيست ضروريا لإظهارها “ديمقراطية”. اسرائيل ‏تستفيد من اللقطة الأولى للوجود الفلسطيني في الكنيست، اضافة الى انها تعتبرهم جسرا للوصول للعرب ‏الآخرين من أجل تطبيع العلاقات معهم.‏

أما بالنسبة للفلسطينيين، وحتى نكون منصفين كذلك نكون عامل تقريب بين الأطراف الوطنية، فينبغي ‏الاعتراف بأن هناك من قاطع الانتخابات من أجل فلسطين وهناك من شارك من أجلها أيضا.. كل رأى ‏الأمر من زاوية. فالمقاطعون الوطنيون وجدوا في المقاطعة ضرورة لعدم اعطاء اسرائيل شرعية اغتصابها ‏لفلسطين، واعتبروا أن الانتخابات “كذبة كبيرة” والمشاركة فيها تعتبر موافقة على القوانين العنصرية التي ‏تصدر عن الكنيست.‏

أما المشاركون فيعتبرون المشاركة فرصة لاستغلال “الهامش الديمقراطي” لعرض حقوق الفلسطينيين، ‏ولكشف ممارسات اسرائيل العنصرية… والمقاطعة برأيهم هي ترك للساحة للأكثر تطرفا من الصهاينة.‏

دعوة للحوار

انطلاقا مما سبق، وعلى قاعدة الفهم الاستراتيجي لإسرائيل وللمشروع الصهيوني، وأهمية القضية ‏الفلسطينية وأحقيتها، ومن وحدة الشعب الفلسطيني ومصالحه، والضرورة الكبرى لبقاء الفلسطينيين ‏واستمرار حياتهم داخل فلسطين، فإن حوارا جادا ومسؤولا بين مؤيدي المقاطعة والمشاركة في انتخابات ‏الكنيست يبدو في غاية الضرورة.‏

بالتأكيد هناك مجال لابداع مواقف أخرى لا تتقيد بالضرورة مع ثنائية “المع والضد”. وعلى الفلسطينيين ‏في داخل فلسطين أن يبحثوا الطرق الأكثر نجاعة لزيادة تأثيرهم من ناحية دون أن يقعوا في فخ الاندماج ‏في الصهيونية كما جرى مع البعض، ودون الخروج عن المصلحة العليا للشعب الفلسطيني.‏

‏* أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

 

زر الذهاب إلى الأعلى