عناق المكان والسرد في رواية ظلال الغياب
بقلم: زياد جيوسي
“ظلال الغياب” رواية بقلم الكاتبة عناق مواسي من العمق الفلسطيني المحتل عام 1948، التقيتها صدفة على هامش معرض عمَّان للكتاب في تشرين الأول من العام الفائت في حفل إشهار روايتها، فتكرمت وأهدتني إياها موشاة بإهداء رقيق، والرواية من 129 صفحة من القطع المتوسط ومن إصدار دار فضاءات للنشر والتوزيع في العام الفائت 2024 م، والغلاف الأول يحمل صورة قطار مسافر على يمين الصورة ومحطة قطار على اليسار، ولا أحد من البشر في المحطة بإشارة رمزية لصعود كل الركاب في القطار أو خلوها من الركاب، بينما الغلاف الأخير كان يحتوي عبارات من الرواية، وإهداء رمزي تقول فيه الكاتبة: “إليكَ، إليَّ، لعل البلاد التي نشتهيها تكون..”، وكل فصل وكل جزء من فصل حمل عنوانا يعطي مؤشر مسبق لما سيليه، كما أن عنوان الرواية عبر بدقة عن محتواها.
الرواية من ستة فصول إضافة للفصل الأخير وبعض الفصول من عدة أجزاء، فامتلكت بذلك أحد أسس الرواية، وفكرة الرواية قائمة على محورين الأول حكاية حب بين شخصين وخيبة الحب والفراق، ومدى ارتباط الراوية بالحبيب حتى حين تركها فهو لم يكن “حبيبا عابرا”، بينما هو أراد الاكتفاء بالصداقة بعد كل ما جرى بينهما من عشق وانصهار ليلي في سريره، فتلجأ هي إلى الكتابة لعلها تجد فيها السلوى بعد أن “طول الفراق بنى جدارا فاصلا بين قلبينا”، وتنتابها الآم مختلفة تلجأ من خلالها للأطباء ومشفى هداسا.
والمحور الثاني هو فكرة المكان والارتباط به هي محور أساس في الرواية، ومن بداية الفصل الأول يكون الحوار بين الراوية وبين شخص مقيم في باريس ويعشقها كمدينة ولا يرى غيرها مدينة في العالم حتى انسلخ في أفكاره وسلوكه عن ماضيه، فيبالغ في الحديث عنها ويقول: “أحب باريس وسوف أحبها من جديد” وكأنه لم يقرأ التاريخ القريب في القرون الماضية والوسطى والقرنين السادس والسابع عشر، حين كانت باريس عبارة عن مكب ضخم للقاذورات والنفايات، وكانت مدينة تطفح في شوارعها الأوساخ والقاذورات والروائح الكريهة وتجوبها القوارض والخنازير، ولم تعرف الحمامات العامة ولا المراحيض وكل قاذوراتهم تسكب في الشوارع، حتى كان سكانها يلبسون الأحذية العالية حتى يمكنهم السير في الشوارع القذرة والملوثة، ويمسحون أنفسهم ببعض العطور لتخفيف القاذورات فلم يكن الاستحمام من عاداتهم وكان الأطباء يحذرون من الاستحمام ويعتبرونه سببا للأمراض، حتى انتشرت لديهم الأمراض ومنها الطاعون والزهري وغيرها إضافة للمجاعات، وأن ما يسمى حضارة فرنسا قائمة على جماجم الملايين من العرب والأفارقة وما زالت.
وتقديس الأمكنة تشير اليه الراوية بالقول: “فعلى ما يبدو ان القداسة التي تحيط بالأماكن هي من صنيع البشر”، وبينما هو يقول: “من لا تسكنه باريس لا تسكنه أي أنثى أخرى”، ترد عليه الرواية بالقول: “إن القدس أجمل وأحلى وأشهى وأبهى”، وتقول أيضا: “العشق في هذه المدينة يعرج بالروح إلى السماوات”، والرواية حفلت برحلة الراوية بأسماء أمكنة في الوطن مثل حيفا ويافا وتل الربيع، وبعض من ذاكرة أمكنة مثل المالحة وبيت صفافا وعين كارم، إضافة للقرى التي جرى تدميرها في عام النكبة وطرد سكانها، إضافة الى القدس ولا ننسى باريس المسرح الأساس للرواية، بحيث أصبح المكان ذاكرة شخوص الرواية من خلال التنقل في الأمكنة، مما يشير للتمزق الذي صنعه الاحتلال في الوطن عامة وأحال أمكنة السكن الفلسطينية إلى تجمعات محاصرة بالمستوطنات وحثالات المستوطنين، في إشارات واضحة لواقع الإنسان الفلسطيني في المدن والقرى والشتات، فكان المكان برمزيته مسرح الصراع والألم والمقاومة وليس مجرد سرد للأحداث.
فنلمس أنه هناك عناق بين المكان والسرد في رواية “ظلال الغياب”، حيث وظفت المكان بشكل متميز مع الإسلوب الروائي والسرد، فكان المكان موطنا للأحداث ومنصهرا بها، وليس مجرد مكان جغرافي، وفي فلسطين يصبح المكان رمزاٌ للهوية الوطنية والثقافية، وتعكس باستمرار الذاكرة الجمعية لأبناء فلسطين، بين ما كان قبل النكبة وما أصبح عليه الواقع من خلال ممارسات الاحتلال وأهدافه المعلنة بتفريغ الأرض من سكانها، فيصبح المكان هو الشاهد على العصر، الشاهد الذي يروي أبعاد الهوية الفلسطينية ورفض الاحتلال والمقاومة التي تتواصل جيلا بعد جيل، فالاحتلال الذي لا يسمح لمواطن أن يرمم بيته في القدس ولا يسمح برخصة بناء، ويهدم البيوت أو يصادرها لأسباب واهنة، هو احتلال بلا أقنعة واضح الخطة والفكرة والهدف، فكان عناق المكان مع السرد قوة في الرواية وظفته الكاتبة بشكل فني جميل ومتميز.
وقد وضعت الكاتبة عبارات مصاغة بوجدانية عالية في بداية كل فصل تشير بشكل رمزي لفكرة الفصل الروائي، وهذه العبارات تعتبر جزءاً لا يتجزأ من سياق السرد الروائي، وفي هذه العبارات نجد أن الكاتبة لديها ملامح لأسلوب أدبي متمازج مع الشعر، ولديها تأملات فلسفية، ففي العبارة الأولى “المدن المقدسة تدخلها برهبة وتصلي بها بصمت، منها تصعد صلواتك للسماء” تظهر المدن المقدسة تفيض على الإنسان بالرهبة والقدسية، وتجعله يتواصل مع الخالق داخليا وبعمق، حيث الكاتبة استخدمت لوحات حسية مرسومة بالكلمات، وفي العبارة الثانية “الكتابة ظل الطريق فلا تترك للفراق أن يؤثث البعد” نجدها تصور الكتابة أنها منارة الإنسان فتزيل آثار الفراق جسديا وروحيا، مع استخدام المجاز في تصوير الفجوة بين الطرفين، والفعل يؤثث بشكل معبر، بينما في العبارة الثالثة “المفاتيح دليل العاشق”، نجد كم كان استخدام المفتاح كرمز في الرواية للعديد من المسائل، وهنا رمزية تعبر عن رغبة العاشق في فتح أبواب قلب المعشوق بتكثيف لغوي قوي.
وفي العبارة الرابعة “قبل أن تفتح بوابة الحب عليك أن تشتري وطنا للغناء”، نجد عملية الربط بين الحب والاستعداد النفسي والروحي له، فاستخدام عبارة “وطن للغناء” يشير لمكان يسوده الفرح والسرور، في استعارة قوية تربط بين الحب كحالة إحساس وشعور والوطن باعتباره المكان الذي يسكننا حتى لو لم نسكنه، بينما العبارة الخامسة “اللامنطق هو المفتاح الوحيد لتعيد صياغة العالم”، فهي دعوة للخروج عن المألوف والقواعد التي تفرضها العادات والتقاليد، من أجل تصور جديد للحياة، بينما نرى العبارة السادسة تقول “الحلم بوابتنا السحرية لخلق واقع نود لو يكون”.، وهذه اشارة لقوة تأثير الحلم لتحويله إلى واقع وتحقيق التغيير الذي نحلم به، فالحلم فكرة تحتاج الجهد وليس مجرد تخيل، بينما العبارة الأخيرة “حين تفر المدن من يديك، ليس لك إلا أن تبني مدينتك التي تشتهي”، فنرى فيها أنسنة للمدن ودفع للإنسان لأن يتمسك بوطنه حتى لا يبني وطنا في الخيال، مما يضفي على الرواية بعدًا شعوريًا قويًا، ودعوة للمقاومة والصمود في وجه المحتلين، فليس من وطن تحرر بالدعاء والأمنيات، فالدعاء يحتاج شيئا من القطران والأخذ بالأسباب، وهكذا نرى لدى الكاتبة من خلال هذه العبارات رؤية فلسفية عبرت عنها أدبيا، ومن خلال استخدام الرمز واللغة المكثفة والأسلوب التأملي للتعبير عما يجول في روحها، ولتثير التفكير لدى القارئ المهتم وليس القارئ العابر.
حين نلقي نظرة شاملة للرواية نجدها عملا أدبيا مازج بين عدة أوجه مثل الوجه الوطني والوجه الإنساني إضافة للوجه الفني، من خلال لغة قوية واستخدام التشبيهات الرائعة والمجازات اللغوية، رغم أنها الرواية الأولى للكاتبة عناق مواسي وإن سبقها مجموعة قصصية وأخرى قصة للأطفال وديوان شعر، ولكن يلاحظ أن اسلوب الرواية اللغوي كان منسابا وسلسلا وبسيطا أقرب للشعر من السرد، ومع ذلك نجده أسلوبا عميقا يحتوي كم كبير من الأحاسيس والمشاعر، بحيث شعرت في مساحات كبيرة أني أقرأ شعرا جميلا تفصل شطراته اشارات الترقيم، فكان السرد في الرواية أشبه بإلقاء قصيدة منبعثة من قلب المعاناة، فكانت الرواية بأسلوبها ومستواها اللغوي الراقي تمثل مرآة تعكس معاناة الشعب والوطن المحتل، فمازجت بين الرمزية الواضحة وليست المغرقة برمزيتها وبين الواقعية، ودخلت في أعماق الشخوص الرئيسة وجوانبها النفسية، والرواية تعكس تجربة فردية لكنها بعض من الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وفي الجانب الإنساني تناولت فقدان الأحبة والحبيب والتمسك بالعدالة ورفض الظلم والحلم بالحرية والمستقبل الأجمل إضافة للغربة والإغتراب.
وقد عالجت الرواية بين ثناياها قضايا مختلفة مثل معاناة المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال، وتعرضه للقتل برصاص المحتلين بدم بارد، اضافة لمشكلات الشتات سواء قسرا أو اختيارا، وتأثيرات الغربة والإغتراب على البعض وانسلاخهم عن ثقافتهم وتراثهم ووطنهم، بينما تشير لحجم الإنتماء لدى المواطن في الوطن رغم كل الضغوط التي يمارسها الاحتلال وفقدان الاحساس بالاستقرار والأمن، فكل مواطن هو مشروع شهيد أو أسير، وقد أتقنت الكاتبة التداخل بين الماضي والحاضر في أحداث الرواية واستعادة الذاكرة للساردة، فعكست علاقة قوية وجدلية بين المكان والزمان، وأشارت لما يحاول الاحتلال زرعه من شعور بالاغتراب حتى داخل الوطن، لدفعه للهجرة بكل الوسائل النفسية والجسدية والضغوط الإقتصادية.
نلاحظ أن الساردة كان تعلقها بمن أحبته غير مستوعب للقارئ وخاصة في عباراتها ص 80 حين تقول: “هو لا يدري أنه كان مفصلا لي وعلى مقاس حلمي، وليس له إلا أن يكون قدري”، فهل هناك من امرأة تلزم من يتركها أن يكون قدرها؟، وأيضا قولها في ص87: “لكن حلم العودة إلى أحضانه وإلى قلبه وإلى عرشه ظل يتملكني، فأحاول”، وهذا يثير السؤال: أين كرامتها التي جرحت؟ وخاصة أنها ليست مراهقة بل تجاوزت العقود الثلاث من العمر، وهذه نماذج من عشرات النماذج التي حفلت بها الرواية، حتى أنها تتخيله قد سقط شهيدا برصاص الاحتلال الصهيوني، فالفلسطيني في الوطن المحتل ينتظره الرصاص في كل مكان “فالرصاص هنا في انتظارك عند كل زاوية، ولا يحتاج جندي لتصريح لكي يرديك قتيلا”.
المفتاح والمفاتيح كانت من الرموز المتكررة في الرواية، والمفاتيح رمز يمكن أن يشير للأبواب المغلقة وإلى حق العودة للمُهجر من وطنه قسرا، وإلى القلوب ومفاتيحها أو للمسافر ويحن لبيته في وطنه، وفي ص 102 اشارت الساردة للمفاتيح، وقد اخترت أنموذج من روايتها تقول فيه: “فعلى كل عاشق أن ينسخ مفتاحا لقلبه، وفي حال ضياع الأول أو نسيانه مع عشيقه المسافر، سيجد مفتاحا احتياطيا مركوناً في دواليب الإنتظار، لكيلا يبقى قلبه بلا مفتاح ولا يضطر مكرها لتغيير كوة قلبه”، وهذه الرمزية الجميلة من خلال المفتاح ابعدها عن الجمال المساحة التي أفردتها لضياع مفتاح السيارة حين عودتها من القدس إلى حيفا، وكانت هذه المساحة وكأنها محشوة حشوا في الرواية وكان يمكن الاستغناء عنها بدون أن يتأثر السرد الروائي.
الشخوص الثانوية في الرواية كانت محدودة جدا وعابرة فقط، ويلاحظ أن الراوية لم تذكر اسمها رغم أنها الشخصية الرئيسة، ولم تذكر إسم المعشوق رغم أنه الشخصية الثانوية الرئيسة في الرواية، بينما ذكرت أسماء أشخاص عابرين في الرواية مثل “جوان” مصممة الأزياء والكاتب جميل السلحوت وأشخاص آخرين رغم دورهم الثانوي جدا أو المحشو حشوا بالسرد، ولكن الرواية أغرقت بالسرد وأطالت به في مناحي عديدة من الرواية، مع تداخل بالأمكنة مما يجعل القارئ العادي يضيع بهذه التفاصيل أو يشعر بالملل أحيانا، وأما نهاية الرواية فقد كانت تقليدية من جانب، لكن القارئ المتمعن سيجد من جانب آخر أنها نهاية مفتوحة على العديد من الاحتمالات فيبعدها عن النهاية التقليدية، وبالتأكيد فأنا تمتعت جدا بقراءة الرواية مرتين، حيث قرأتها المرة الثانية بشغف كبير.
“جيوس 13/1/2025”