علاقة السلطة بالمجتمع الفلسطيني
د. عقل صلاح*
لقد تم تحديد علاقة الدولة بالمجتمع من قبل العالم السياسي جويل مجدال بأربعة ركائز مهمة وهي: دولة قوية ومجتمع ضعيف، دولة ضعيفة ومجتمع قوي، دولة ضعيفة ومجتمع ضعيف، ودولة قوية ومجتمع قوي.
إن الركيزة الرابعة “الدولة القوية والمجتمع القوي” هي الحالة الأفضل والأمثل، حيث أن العلاقة بين الدولة والمجتمع تتجسد من خلال التعاون والتكامل، بحيث تعتبر الدولة قوتها من قوة مجتمعها، والمجتمع يعتبر قوته من قوة دولته, مما ينتج عن ذلك دولة ومجتمع يربطهما علاقات اعتماد وتساند وتمكين متبادلة.
وفي هذا الإطار يؤسس مجدال إلى التأكيد على أن أشكال العمل والتكيف في روابط العلاقة بين عناصر الدولة وباقي القوى الإجتماعية قد أنتجت نطاق واسع من المخرجات، والتي يمكن حصرها في أربعة نتائج رئيسية على النحو التالي:
- التحول الكامل: وهنا تتعمق الدولة في المجتمع بهدف التدمير، أو قهر القوى الإجتماعية لتحقيق قدر أكبر من السيطرة.
- تأسيس الدولة القائمة على القوى الإجتماعية: في هذا النوع تقوم الدولة بتطوير مساحة تمكنها من تواجد بعض القوى الإجتماعية والنخب المحلية لتشكيل نمط جديد من السيطرة، وهو الأمر الذي يحد بشكل جزئي من سيطرة الدولة.
- إدماج القوى الإجتماعية الموجودة في الدولة: في هذا النوع تتواجد عناصر الدولة عبر سيطرة القوى الإجتماعية، ولكن دون حدوث تغييرات شديدة في نمط السيطرة، أو أن تواجد الدولة قد يعمم أنماط جديدة من السيطرة التي تتصاعد فيها القوى الإجتماعية من غير السلطة.
- فشل الدولة كلياً في محاولات التعمق: في هذه الحالة فإن عدم انخراط أو ضعف انخراط الدولة في المساحات المحلية، قد يؤدي إلى تأثير ضعيف جيداً على المجتمع، وبالمثل تأثير مقيد من قبل القوى الإجتماعية على الدولة، وهو أمر نادراً ما يحدث في الواقع الفعلي. فما علاقة كل ذلك بفلسطين في الوقت الحاضر؟؟.
وعليه، تأتي علاقة السلطة في المجتمع الفلسطيني في مقدمة القضايا المطروحة حاليًا في ظل انعدام الثقة من قبل المجتمع بالسلطة. ففي فلسطين الحالة فريدة من نوعها حيث أنها مازالت محتلة، ولايوجد دولة فلسطينية وإنما سلطة تمارس دورها الإداري والسياسي في الضفة الغربية، وهناك سلطة أخرى تمارس دورها في القطاع من قبل حركة حماس، بالإضافة لاحتدام الصراع بينهما فالسلطتان من الناحية السيادية فاقدتين للسيادة وتحكمهم سلطة الاحتلال– فلسطين بين ثلاث سلطات-. لذلك سوف نستعيض عن مصطلح “الدولة” بمصطلح “السلطة”
إن العلاقة بين السلطة والمجتمع الفلسطيني يجب أن تبدأ بفهم دور الأحزاب والجماعات من أجل السيطرة أو التحول. ومن هنا يمكن التأكيد على أن قدرة جميع الأحزاب والجماعات وعناصر السلطة على تطوير التماسك، والحصول على الموارد المادية والسلطوية، يعتمد بشكل كبير على حضورها وأدائها السياسي، مع العلم أن الوصول إلى هدف تحقيق السيطرة الكاملة لأي من الأحزاب والجماعات، يعتبر من الأمور مستحيلة الحدوث في الوقت الحالي بما أن العملية الديمقراطية – انتخابات تشريعية ورئاسية- معطلة، بالإضافة إلى السيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينية، وانشغال الأحزاب والجماعات في البحث عن مصالحها الحزبية الضيقة.
وفي فلسطين تم ابتكار ركيزة خامسة ومخالفة لكل الركائز الأساسية السابقة، حيث تفيد هذه الركيزة بأن “الكل يضعف في الكل” أي السلطة والمجتمع. فالتنظيمات تضعف نفسها بنفسها وحتى التنظيم الواحد يعمل على اضعاف نفسه بنفسه. ومثال على ذلك حركة فتح فالخلافات الداخلية والصراع على المناصب وغيرها من القضايا التي تمس وحدتها تعمل على اضعافها وتمزيق وحدتها. والجبهة الديمقراطية، أمينها العام الرفيق نايف حواتمة متربع على عرش الأمانة العامة منذ انطلاقتها عام 1969 لغاية اليوم ويطالب غيره بتطبيق الديمقراطية.
وحركة فتح والتنظيمات وحركة حماس تضعف بالرئيس بالتحاف مع مصالحها. فتحالف حماس مع تيار القيادي محمد دحلان هي سياسة جديدة للضغط على الرئيس الفلسطيني وجسر ارتباط مابين حركة حماس وجمهورية مصر التي تربطها علاقات مع دحلان. حماس ومصر تعملان على اضعاف حركة فتح من خلال الضرب على وتر دحلان، والدول العربية تضعف الرئيس عباس وتهدده بأن البديل موجود وهو دحلان. والسلطة تضعف بفتح في غزة من خلال استهداف رواتب موظفي حركة فتح، وحركة حماس تضعف بحركة فتح في غزة. والسلطة تضعف بالمجتمع من خلال منع الممارسات الديمقراطية وتكميم الحريات في الضفة عبر سن “قانون الجرائم الإلكترونية “. وإسرائيل تضعف في السلطة والمجتمع من خلال قتل الفلسطينيين في الضفة والقطاع. والولايات المتحدة الأمريكية تضعف في الكل الفلسطيني، والعرب يطبعون علاقاتهم مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. والسلطة والتنظيمات والمجتمع يضعفون في الأسرى ولعل معركة إضراب الأسرى كشفت الواقع السياسي والجماهيري للكل الفلسطيني، فالسلطة وقفت عاجزة والتنظيمات الفلسطينية والشعب لم يكن على قدر من المسؤولية حتى وصل الحد بالخروج في مسيرات وتضامن لايرتقي لمعركة الأمعاء الخاوية التي استمرت لواحد وأربعين يومًا. والرئيس يستهدف حماس وتيار دحلان بلا تردد وبكل قسوة وحتى طال هذا الاستهداف الشعب في القطاع، وغيرها الكثير من القضايا التي لايتسع المقال لمناقشتها.
وبالتالي، فإن العلاقة بين السلطة الضعيفة والمجتمع الضعيف تتبين من خلال وجود علاقات شك وغياب المصداقية بينهما, وهي تنتج مجتمعًا يكرس علاقات الفساد والمحسوبية ويعمل على تجسيد المصلحة الشخصية والعائلية, مما يعيق النمو الاقتصادي ويجسد مبدأ الواسطة والمحسوبية ويستبعد الكفاءات ويزيد من حدة البطالة والفقر وهجرة الشباب وانعدام الثقة والأمل في الاصلاح المستقبلي. وكل ذلك تبين من خلال المشاركة المتدنية في الانتخابات المحلية التي عقدت في الضفة الغربية في أيار الماضي فكانت النتيجة الصاعقة في مدينة نابلس حيث أن نسبة عدم المشاركين كانت 81% تقريبًا. وعلى نفس المنوال كانت نسبة عدم المشاركين في انتخابات جامعة النجاح التي عقدت في أبريل الماضي 42%، والعديد من استطلاعات الراي التي نفذها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية جاءت نتائجها صادمة على جميع المستويات.
فالحالة الفلسطينية بحاجة إلى ركيزة جديدة تأخذ بعين الاعتبار خصوصيتها كونها محتلة بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني والتنسيق الأمني والتدخل العربي والغربي بالسياسة الداخلية والخارجية الفلسطينية. ومن أجل تصحيح مسار العلاقة بين السلطة والمجتمع لا بد من تحقيق المصالحة الداخلية داخل كل تنظيم، وإنهاء الانقسام البغيض، وقطع التنسيق الأمني مع الاحتلال، وتشكيل حكومة وحدة وطنية من التنظيمات الفلسطينية ومن القيادات المشهود لها بالنزاهة والوطنية من أجل العمل على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الثالثة.
إلى جانب ذلك يتطلب من الحكومة المنتخبة طرح برنامج إصلاحي وطني يعالج هموم الشعب الفلسطيني الحياتية والوطنية، من أجل القضاء على الفساد الإداري والمالي، وإنهاء حالة المحسوبية والواسطة، وفتح المجال أمام القيادات الشابة في تبوؤ المناصب القيادية في التنظيمات والسلطة، والعمل الجاد والدؤوب من أجل الحد من البطالة والفقر وهجرة الشباب.
ويجب على الإعلام الفلسطيني بجميع أنواعه أن ينطلق من المصلحة الوطنية العليا وأن يبتعد عن إعلام الردح، وأن تكون لغة الحوار والاحترام قائمة في الكتابات والنقاشات والمقالات والحورات والأبحاث والأوراق العلمية. حيث يجب أن تواجه الحجة بالحجة والمقالة بالمقالة والبحث بالبحث، وليس في الشتم والتخوين والتشويه والنقد من أجل النقد, عندها سنكون قادرين على الإرتقاء بمستوى الوعي والثقافة ونحظى باحترام الشعوب ونبني سلطة قوية ومجتمع قوي.
*كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.