سجن “جلبوع”.. قصة اختراق مفهوم “إسرائيل” الأمنيّ
بالرغم من كل أعمال القتل والتدمير والحرق، لا تنتهي أساطير الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، وهم الذين كانوا ولا يزالون يوجّهون كلّ فترةٍ أو عام، ضربةً تلو الأخرى للاحتلال الإسرائيلي وقياداته السياسية والأمنية والعسكرية.
فبعد تهشّم صورة “جيشه” وقهره في أكثر من مناسبة، جاء دور القلاع الأمنية لكيان الاحتلال، أي السجون، عندما حوّل الأسرى الفلسطينيون المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية مادةً للتندّر والسخرية وإطلاق النِكات الهزلية بحقها، وذلك بعد نجاحهم باختراق كلّ الإجراءات الأمنية والأجهزة التقنية الأشدّ تطوّراً في هذه القلاع، والأكثر تجهيزاً في العالم، عند التحرّر مِن سجن “جلبوع” الإسرائيلي.
وقد كانت مصلحة السجون الإسرائيلية، قد خرجت في العام 2004، وقبيل افتتاح سجن “جلبوع”، متبجّحةً ومتباهيةً بالقول إنّ “السجناء هنا أكثر أماناً من الأموال الموجودة في خزائن بنك إسرائيل”.
واليوم مع حلول الذكرى السنوية الثانية لأسطورة “نفق الحرية”، بعد نجاح ستة أسرى في التحرّر من سجن “جلبوع” في 6 أيلول/سبتمبر 2021، أثبت الأسرى أنّه لا توجد قوة أو أجهزة مراقبة مهما كانت متطوّرة، تقف أمام عزيمتهم وتوقهم إلى الحرية لمواصلة الكفاح والنضال ومقاومة هذا العدو، خارج السجون أو داخلها، حيث أُضيفت هذه العملية إلى سجل الهزائم والخيبات الإسرائيلية.
في الذكرى الثانية لعملية #نفق_الحرية، الميادين في تغطية شاملة عبر نوافذ ومساحات حوارية من خلال الشاشة والأونلاين، تأتيكم الأربعاء في الـ 6 من أيلول/سبتمبر. #الميادين… pic.twitter.com/ktwIsomlH0
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) September 2, 2023
قصة سجن “جلبوع ” والمفهوم الأمني الإسرائيلي لخدمة السجون
في البداية، وقبل شرح الغاية الإسرائيلية من افتتاح هذ السجن، لا بدّ من سرد سيرته الذاتية بسطورٍ قليلة.
يقع سجن جلبوع في وادي “بيت شان”، على بعد 4 كم شمالي الضفة الغربية المحتلة، و14 كم غربي السياج الإسرائيلي مع الأردن، وهو عبارة عن قلعةٍ عثمانية، جعل منها الجيش البريطاني ثكنةً عسكرية، وحوّلتها “إسرائيل” في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى سجن شطّة، ووسّعتها لتشمل سجن “جلبوع” القريب عام 2004.
ويضم هذا السجن مئات الأسرى الأمنيين الفلسطينيين، والأهم أنّه تمّ تصميمه لتغيير المفهوم الكامل لسَجن من تصفهم “إسرائيل” بـ”الإرهابيين الوازنين”، وهم الذين يواصلون نشاطهم المقاوم حتى خلف القضبان، ولهذا أطلقت مصلحة السجون الإسرائيلية المفهوم الأمني الجديد لخدمة السجون.
يُشير هذا المفهوم ببساطة إلى أنّ الأسرى الأمنيين الفلسطينيين يواصلون نشاطهم حتى خلف القضبان، لمحاولة تنفيذ أعمالٍ مُقاوِمة، وأيضاً للتواصل مع المقاومين، وللقيام بذلك، مطلوبٌ الإشراف على مستوى مختلف تماماً، وحراسة وثيقة.
يُشار إلى أنّ سجن “جلبوع” مبني، من بين أمورٍ أخرى، على السجون الأكثر حراسة في الولايات المتحدة وإيرلندا والمملكة المتحدة.
رسالة بصوت الأسير #محمود_العارضة لـ #الميادين: “بعطي الميادين موافقتي على كتابة الرواية، وكلنا فخر واعتزاز بمهمة توثيق الرواية كلها”.#فلسطين
#نفق_الحرية #نفق_الأبطاللمشاهدة الحلقة الأولى من السلسلة الوثائقية #الأبطال👇https://t.co/MuUxV4FVNgpic.twitter.com/SRYRPlbisD
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) September 4, 2023
والأكثر أهمية، أنّ المفهوم الأمني في سجن “جلبوع”، كان قد وضعه جهاز الأمن الإسرائيلي بعد التجربة المريرة مع الأسرى الفلسطينيين، والتي لخّصها المتحدث السابق باسم شرطة “شيفاست” الإسرائيلية، بالقول “تعلّمنا أنّ كلّ سجينٍ أمني يمكن أن يكون قنبلةً موقوتة”.
ويصنّف هذا المفهوم، أسرى سجن “جلبوع” بأنّهم أيضاً من بين أصعب الأسرى الأمنيين الذين عرفهم نظام السجون الإسرائيلية على الإطلاق، وفي هذا السياق تكشف صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أنّه من بين هؤلاء الأسرى كلّ من مهنّد جرادات، والذي وصفته بأنّه “أرسل المقاومة إلى العملية الجهنمية في مطعم مكسيم في حيفا”، وجهاد يعمور، قائد الخلية التي اختطفت وقتلت الجندي الإسرائيلي، نحشون واكسمان، والناطق باسم حركة حماس آنذاك، عبد الخالق النتشة، وعلم الكعبي، الذي حُكم عليه بالسجن تسعة مؤبّدات، لإرساله استشهادي لمهاجمة محطة القطار الإسرائيلية في “كفار سابا”، إضافةً إلى صفٍّ من الاستشهاديّين الذين أرادوا تنفيذ عملياتهم وتمّ كشفها.
مميّزات سجن “جلبوع” التقنية
في الواقع، وضع الاحتلال المفهوم الأمني الجديد أعلاه لسجن “جلبوع”، الأكثر حراسةً في الكيان، لقطع أيّ اتصالٍ بين الأسرى والمقاومين، عبر سلسلةٍ من الآليات الأمنية المتطورة.
وتمّ تصميم السجن من الداخل وفقاً للآتي، يُحتجز الأسرى في خمسة أجنحةٍ منفصلة، والطريق إليهم يمرّ عبر “أنبوبٍ” ملفوفٍ بالشُبّاك، لا يمكن رؤية أي شيء مما يحدث في الخارج، ومن هنا، لن يكون لدى الأسرى مساحةٌ لتخيّل مكان وجود السجن، وما هي الأعمال التي يمكن القيام بها بالقرب منه، بحسب أحد ضباط إدارة السجن الإسرائيلي.
ووفقاً للتسمية الإسرائيلية، تعرف كل زنزانةٍ في سجن “جلبوع” باسم “القبو”، وتزن نحو 66 طناً، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف وزن زنزانة السجن العادية الذي لا يُجاوز 26 طناً، وهي مبنية من الخرسانة المسلحة، ليكون المضحك في الأمر، أنّ مصلحة السجون الإسرائيلية زعمت حينها أنّه “لن يهرب أي سجين”.
وأكثر من ذلك، يوجد في الجزء السفلي من كلّ مقصورةٍ جهازٌ يمنع أي إمكانية لحفر نفق، وهو جهازٌ يرفض جهاز الأمن الإسرائيلي الكشف عنه، وتعقيباً على ذلك، كان حرّاس السجن قالوا قبل أعوام من عملية الهروب: “لقد تعلّمنا الدروس من حفر الأنفاق في سجن مجدو وسجن شطّة، من هنا، لن يتمكّنوا من الفرار بعد الآن”.
كما يتمّ الدخول إلى كلّ جناحٍ من خلال مركز الحارس الذي يجلس في غرفةٍ مغلقة ببابٍ حديدي ثقيل، ومن هذه الغرفة يستخدم السجّان جهاز كمبيوتر للتحكّم في فتح وإغلاق الزنازين، ومن خلال شاشاتٍ كبيرة يراقب حركة السجناء في الفناء الخارجيّ عبر 72 كاميرا فيديو مغلّفة، إضافةً إلى نظام “VMD”، والذي يمكن من خلاله تحديد مكان الشخص الموجود في منطقة محظور دخولها.
وفي مثل هذه الحالة التي يتم بها الدخول إلى كلّ جناح في السجن، يتمّ نقل قوةٍ من الحرّاس إلى مكان الحادث خلال ثوانٍ، وتكون مهمتهم إعادة المتسلّل إلى زنزانته.
كما أنّ جهاز الأمن الإسرائيلي، وضع سلسلةً من حواجز الاتصالات والحواجز الإلكترونية التي يتم تفعيلها طوال الوقت، ووظيفتها هي تحييد استقبال أي جهاز اتصال محمول.
ومع أنّ الوصول إلى هذه الغرفة يكاد يكون مستحيلاً، إلّا أنّ مصلحة السجون منعت الوصول إلى الكمبيوتر، ووضعت الطريقة الوحيدة للدخول إليها وتشغيلها عبر كلمة مرورٍ تتغيّر من وقتٍ لآخر، ولا يعرفها كلّ الحرّاس، كما أكّد أحد ضبّاط أمن السجن السابقين، ويدعى الحاخام أمل تابيش.
ليس هذا فحسب، ففي كلِّ جناحٍ توجد 15 زنزانة مرتّبة على شكل حرف “H”، تحتوي كلّ زنزانة على ثمانية أسرّة ودش ومرحاض ومروحة وغلاية وموقد كهربائي، حيث يمكن للحرّاس “مصادرة كلّ هذه الامتيازات، اعتماداً على سلوك الأسرى”.
وعليه فكلّ جناحٍ هو في الواقع سجنٌ صغير، ووفقاً لمدير سجنٍ سابق، والذي قال لموقع ” واي نت” الإسرائيلي، إنّه “من الأفضل إجراء فصلٍ كامل، بدلاً من خلق حالة من 400 سجين يخرجون في صلاة الجمعة إلى الفناء وهم يهتفون معاً الله أكبر”.
اختراق الأسرى لإجراءات السجن الأمنية قبل “نفق الحرية”
علمياً، درست مصلحة السجن سلسلةً من الأحداث التي وقعت في مختلف سجون الكيان، ومع ذلك كان جهاز “الشاباك” قد اعترف أنّه أحبط “هجوماً كبيراً، بعدما تلقّى المهاجم تعليمات من أحد السجون في إسرائيل”، خلال عام 2004.
وكشف “الشاباك” أنّ السجين، والذي وصفه بأنّه “ترّأس سابقاً إحدى المنظّمات الفلسطينية، وحوكم وأدين بقتل إسرائيليين”، اتصل بالمنفّذ وأرسله لاستلام الأمتعة، مُشيراً إلى أنّه “كان يعرف كيف يرشده لأنّ الشحنة كانت مخبّأة داخل غسالة قديمة”.
ويتخصّص الأسرى في إعداد “الأشغاريم”، بحسب التسمية الإسرائيلية، أو “الكبسولات” كما يطلقون عليها، وهي عبارة عن ملاحظات كُتبت عليها تعليمات عن العمل بخطٍ صغير جداً، وتُصنع على شكل كرةٍ صغيرة وتُغلّف بالبلاستيك، ففي سجن “شكما”، على سبيل المثال، والذي يُستخدم أيضاً لسجن الأسرى الأمنيين، تمّ اكتشاف لفافة تحتوي على نحو 170 “أشغاريم” مكتوبة على مرّ السنين.
في المحصّلة، ومع كلّ التحصينات والتجهيزات الإسرائيلية، إلّا أنّ الأسرى كانوا على الدوام ينجحون في اختراق السجون، وهو ما أقرّت به مصلحة السجون الإسرائيلية، بالقول “إنّهم مبدعون للغاية”، ولهذا لن تكون عملية نفق الحرية الأخيرة.