رواية قط بئر السبع بين الصمود والرمزية

بقلم: زياد جيوسي
بدعوة من منتدى شرق وغرب ومديرته السيدة سلوى القدومي، وجهت لي دعوة لتقديم قراءة نقدية لرواية “قط بئر السبع” وابداء ملاحظاتي عليها، لتكون محور للنقاش بين الحضور من أعضاء المنتدى، وأشير أنه قد ساد من سنوات طويلة مصطلح أدب السجون عما يكتبه الأسرى في فلسطين، سواء في المعتقل رغم صعوبة الكتابة وتهريب المكتوب للخارج، أو ما يتم كتابته بعد التحرر حيث القدرة على التفرغ للكتابة عن فترة الاعتقال أو أصناف من الأدب تتعلق بتلك المرحلة، أو ما يكتبه كتاب من خلال الاستماع لحكايات من الأسرى المحررين عن تجربتهم، وبالنسبة لي أسميه “أدب الصمود” فهو يشكل تحدي الأسير للجلاد والمقاومة بالقلم، ومن الممكن أن يكتب شخص مسجون بقضية جنائية مدنية أيضا، فذلك من ينطبق عليه مصطلح أدب السجون، وقد قرأت العديد من الكتب كتبت بالمعتقل أو خارجه، وهي تعتبر مقاومة مختلفة عن المقاومة بالحجر أو السلاح، فهذه حالة استثنائية وشكل مهم من أشكال المقاومة والتحدي للمحتل، وأول كتاب قرأته لأسير فلسطيني كان كتاب الزنزانة رقم 7 للأسير المحرر فاضل يونس والتي صدرت عام 1983، وقد أتيح لي قراءة كتاب “قط بئر السبع” للكاتب الفلسطيني أسامة العيسة، والكتاب من اصدار روايات الهلال/ القاهرة عام 2017 م وبغلاف حمل صورة جانبية لسور سجن بئر السبع، والإهداء كان للأسير المحرر محمد الزغاري “أبو الطاهر” الذي روى للكاتب حكاية القط، والكاتب أعاد صياغتها بأسلوب روائي لم يخل من حس الصحفي وأسلوبه وهي مهنة الكاتب، وهذا الكتاب ليس الأول للكاتب عن تجربة الاعتقال فقد سبقه كتاب يحمل اسم المسكوبية على اسم سجن المسكوبية سيء الصيت والسمعة، إضافة لعدة روايات ومجموعات قصص صغيرة وكتب أبحاث في الطبيعة والآثار في فلسطين، وروايته مجانين بيت لحم تميزت بالحصول على جائزة الشيخ زايد.
أحب أن أشير أن فكرة تسلل القط الى المعتقل فكرة جميلة من خلال كيف أصبح التعامل معه، لكن فكرة التعامل مع حيوانات أو طيور في المعتقل ليست جديدة، فأبو فراس الحمداني أنشد للحمامة التي كانت تحط بالقرب منه خلال أسره، وفي سبعينيات القرن الماضي حين قضيت عدة سنوات بالمعتقل ربيت قطة أسميتها مديحة كانت لا تفارق باب غرفتي بالمعتقل أثناء اغلاق الأبواب علينا، وأذكر معتقل آخر دخل لزنزانته عصفور فاهتم به وأسماه ياسمينة وأصبح يتمشى به بالساحة وهو يربطة بخيط رفيع، وكل هذه كان لها حكايات معنا كمعتقلين، ومن هنا أخذت الرواية اسمها من قط تسلل لسجن بئر السبع، ومن خلال الحديث عن القط كان الكاتب يقدم تفصيلا لمعاناة الأسرى بالمعتقل، سواء من برامجهم اليومية أو الطعام القليل والرديء الذي يقدم للأسرى والذي يعتادوه مع الوقت فليس هناك من بدائل، كما أشار إلى عقوبة العزل المنفرد وكيف يفعل السجين للحفاظ على نفسه طوال فترة العقوبة التي لا يرى احد بها سوى السجان حين يحضر له الطعام، والاستذكار من الذاكرة من أهم وسائل مقاومة العزل الانفرادي، وكذلك أشار الكاتب إلى الأمهات المتطوعات لزيارة سجناء اهاليهم خارج فلسطين ولا يتمكنوا من رؤيتهم، وكذلك عما يقوم به الاحتلال من تزوير لأسماء زواحف وحيوانات فلسطينية إضافة للمدن والقرى والأمكنة.
هذه المعاناة للأسرى والذين تمكنوا من تحقيق بعض مطالبهم من خلال الاضرابات عن الطعام، يجدوا أنفسهم أمام ادارة سجن تريد من الاسير الذي يعتني بالهرة التي ولدت بالمعتقل أن يخرجها، ولكن الأسير والأسرى يرفضون ذلك ويعتبرون القطة ضيفتهم ولجأت اليهم وأنها ابنة الأرض الفلسطينية، وإكرام الضيف بعض من عادات العرب والفلسطينيين، فتصبح القطة حكاية تجاذب وصراع بين الادارة وبين الأسرى، تصل لمرحلة استخدام القوة من الإدارة ضد الأسرى لإخراج القطة وهريراتها من غرفة الأسرى، فيتم وضع ابراهيم الصرعاوي الذي لقب بالبسه لعنايته بالقطة في العزل الانفرادي.
ويلاحظ في الرواية حوارات بين السجان والسجين وفيها كشف عن بعض جوانب الكيان الذي جمع سكانه من الشتات، فهناك حديث عن المتدينين اليهود “الحريديم” وعن طائفة الزنوج اليهود الغير معترف بيهودتيتهم، وعن الشرخ بين اليهود الشرقيين والغربيين “الإشكناز والسفارديم”، وعن الصراع السكاني بين اليهود والفلسطينيون، كما تحدثت الرواية عن الخلافات التي تحدث بين الفصائل المختلفة داخل السجن، وعن ظهور أفكار دينية متطرفة أيضا، وعن اكتشاف جاسوس دسه الشاباك بينهم واعترف وتم إعدامه، والغريب أن هذا الجاسوس تسلل عبر السياج قبل حرب حزيران 1967 ليعرض خدماته على الاحتلال، وبعد هزيمة حزيران ذهب بنفسه مرة أخرى للاحتلال عارضا خدماته، كما تحدثت الرواية عن بلدة بيت صفافا التي قسمت البيوت والسكان فيها بخط قلم على الخريطة.
والرواية خصصت المكان وهو سجن بئر السبع وأشارت للزمان أنه الفترة التي سبقت زيارة السادات لدولة الكيان، وكانت أسماء الشخصيات محدودة فيها حيث الشخوص الرئيسة والثانوية المهمة للسرد الروائي، مثل الأسير ابراهيم البسة وهو الشخصية الرئيسة في الرواية وراويها وهو من أسرى الدوريات، وشاهين وهو ممثل الأسرى في السجن لدى الإدارة، و”آشر” مدير السجن وهو ينفذ تعليمات “الشاباك” في التعامل مع الأسرى، والكابتن “لورنس” المحقق من الشاباك والذي يطرح على ابراهيم البسة التعاون تحت اسم علاقات ايجابية بين المحتل والأسير، والبروفيسور “شمعون” وهو أنموذج لعمليات التزوير الصهيونية للأمكنة الفلسطينية وخاصة المقامات، والكاتب “سمسوني” اليهودي المهاجر من العراق ويحاول أن يترك تأثير على أفكار الأسرى الذين رفضوه خلال النقاش معه، واتخذوا قرار بمقاطعة أي لقاء مستقبلي ترتبه الادارة مع أمثال سمسوني، والدكتورة “منزل” الصهيونية التي اهتمت بإعادة تربية وتدريب الكلاب المحلية والتي يطلق عليها الكلب “الجعاري” وسموها الكنعاني، اضافة لأسماء ثانوية مثل الجاسوس الذي جرى اعدامه بالسجن، وما عدا ذلك فهي أسماء عابرة عبر أحداث في الرواية.
يلاحظ في الرواية أسلوب الاستذكار حيث معظم أحداث ما قبل دخول الهرة السجن التي أصبحت غطاء المشكلة بين الادارة والأسرى، فخلال تنفيذ عقوبة العزل والسجن الانفرادي على ابراهيم البسة، يستعيد الذاكرة ويروي الأحداث سواء عن مسيرته النضالية أو عن ما شاهده من أساليب التحقيق والمحققين تجاه الأسرى، ولا بد من الاشارة الى بعض المسائل التي لفتت نظري في الرواية من زاوية ملاحظات نقدية، فالسجن حمل اسم المدينة القريبة بئر السبع، وقد لفت نظري عبارة يقول الكاتب فيها: “المدينة التي حلم الأسرى بالعودة اليها مُحرِرين فوصلوها أسرى”، وأرى أن العبارة لم تكن دقيقة فالأسرى كانوا يحلمون بحرية الوطن جميعه من نهره لبحره، وليس مدينة السبع وحدها، وصيغة العبارة تحمل في طياتها أن المناضلين فشلوا بهدفهم رغم أن البندقية لم تنه دورها بعد، رغم أن منطقة بئر السبع جزء لا يتجزأ من جغرافية الوطن الفلسطيني، وكانت وما زالت رمزا في مقاومة التوطين الذي يلجأ اليه الاحتلال، وفي تاريخ الأول من أيار 2024، هدمت جرافات الإحتلال مساكن أهالي قرية العراقيب تحت حماية قوات من شرطة الاحتلال والوحدات التابعة لها.
وكذلك الاشارة أن قصة سيدنا يحيي عليه السلام مع الراقصة “سالومي” جرت في موقع مكاور قرب مأدبا، بينما الأقرب حسب رأي المؤرخين أنها جرت في بلدة سبسطية الفلسطينية، وما زال الموقع موجودا على شكل كنيسة صغيرة استمرت الصلاة فيها لقبل عدة سنوات وتوقفت بعد وفاة سامي دبابنة، وهو آخر المسيحيين في سبسطية والذي كان يقيم الصلوات فيها، كذلك أشار الكاتب أن الفدائيين سجنوا بعد تنفيذ عملية لهم في سجن الاستخبارات في منطقة العبدلي، ولكن أعتقد أن المقصود هو المخابرات العامة وليس الاستخبارات العسكرية، ولا أعرف هل كان الشهيد أبو عمار والحاج اسماعيل كانوا يتمكنون من زيارة المعتقلين هناك كما ورد في الرواية؟ أشك في ذلك، وأيضا الاشارة أن هناك اتفاقيات بين الأردن والكيان بعدم العبور من الحدود، وفي تلك الفترة لم يكن هناك أية اتفاقيات رسمية بين الجانبين بعد هزيمة حزيران حتى طرد المقاومة من الأردن، وأول اتفاقية رسمية ومعلنة هي اتفاقية وادي عربة بعد توقيع اتفاقية اوسلو.
وأيضا تخصيص مساحة كبيرة للحديث عن كلاب الصهيوني “آشر” واهتمامه بهذه الكلاب، فقد تكلم عن هذه الكلاب من ص 113 الى نهاية ص 119 وفي صفحات أخرى، ثم انتقل للتحدث عن طيور البجع والتي تتعرض للموت بسبب الصيد الجائر وأسباب أخرى على صفحتين، فهل هذه المواضيع والتي تعني مدير السجن الصهيوني لها علاقة بالأسرى حتى يفرد لها هذا العدد من الصفحات، ولو قلصت لما تركت على سرد الرواية أثر كبير، والعلاقة الوحيدة التي ظهرت هي إلقاء الصهيوني آشر القط المسمى حكم وهو ابن القطة الشقراء للكلاب لتأكله بوحشية، كما نجد الكاتب خصص عدة صفحات للحديث عن القطط والقط الرملي، وأسطورة الكلب والقطة والفأر وأعتقد أن هذا الأسلوب التقريري أخرج الرواية عن السرد الروائي وأصبحت هذه الصفحات حشو لصفحات الرواية وكان يمكن اختصارها والاكتفاء برمزيتها، أما الملحق وهو من عدة صفحات فلا يعتبر من الرواية وبه مصطلحات استخدمت خلال السرد الروائي وهي خاصة بالمعتقلات الصهيونية والسجون.
رواية “قط بئر السبع” تعتبر إحدى الأعمال الأدبية التي تتحدث عن الأسرى وصراعهم اليومي مع المحتل، ورغم الأسلوب التقريري الصُفحي الذي ظهر في الرواية إلا أن الأحداث الواقعية في الرواية جرى التعبير عنها من خلال السرد الروائي، والإضاءة على مرحلة مهمة من تاريخ الشعب الفلسطيني وهي زيارة السادات لدولة الكيان وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، التي أخرجت مصر من الصراع مع دولة الكيان وفتحت الطريق أمام اتفاقيات أخرى وتطبيع رسمي مع الكيان الصهيوني، مما يترك المجال للقارئ لرؤية صمود الأسرى والمقاومة من جانب، وخيانة الأشقاء من الجانب الآخر، والأسلوب المبسط في لغة الرواية جعلها توصل الفكرة للقارئ بسهولة وكذلك اعتماد الرمزية الواضحة وليست المغرقة برمزيتها.
تنتهي الرواية بتألم ابراهيم البسة والأسرى أن تُقتل وتُأكل قطط البلاد وتمزق بأسنان ومخالب كلاب البلاد، فالقط المسمى “حكم” قط بلدي وكذلك كلاب آشر كلاب بلدية، وفي هذا الاسقاط معنى كبير يمكن اسقاطه على الواقع الفلسطيني، فالمحتل يعمل دوما على اشعال الصراع بين فصائل فلسطينية مختلفة، وهنا يمكن أن نرى رمزية تشير للشعب الفلسطيني من خلال القطة وجرائها، التي تمسكت بالعودة للوطن ولو بالعودة الى السجن لتطرد من جديد الى شتات الصحراء والمنفى، وعودة القط حكيم رغم تشريده بالشتات ومنفى الصحراء، لتأكله الكلاب البلدية التي رباها الاحتلال وطبعها لتكون في خدمته وخدمة مشروعه الاحتلالي، فالقطط هنا رمزت للتمسك بحق العودة وللصمود والمقاومة، والكلاب رمزت لمن تساقطوا وخدموا الأعداء مقابل الطعام والقوة في مواجهة المقاومين الأحرار.
“جيوس المحتلة 8/12/2024”

زر الذهاب إلى الأعلى