دروس “الطوفان” وارتداداته (1)… قول في النصر والهزيمة
رغم أن “الحرب” الدائرة منذ كان “الطوفان” لم تضع اوزارها بعد، فإن المشهد اليوم، فيه ما يكفي من الوضوح لبعضٍ من التقييم لاستخلاص دروس وعبر قد تكون مفيدة في قادم الأيام ولقادم الأحداث، كما أن فيه ما يكفي من الغموض لندرك أن ما سنخرج به الآن ليس نهائيا، وبالتأكيد ليس كل شيء.
من المهم أن يدرك كل من “يتصدى” للحديث عن وضع المنطقة الآن، أن الابتداء بالحديث عن “الطوفان” رغم كونه مفصليا في حركة القضية، فإنه ليس مقطوعا من شجرة التاريخ، ففصله عن سياق القضية فيه الكثير من التجني “المعرفي” على الحقيقة، والظلم التاريخي “للضحية”. إننا أمام أمر استثنائي نعم، لكنه ليس شاذا، والمساواة بين الاستثنائية والشذوذ، إما جهل في حالة البراءة، وإما تواطؤ في حالة الانحياز. فالطوفان وما تلاه ليسا إلا حلقة في عدوان صهيوني امبريالي على فلسطين والمنطقة، وتصد لذلك العدوان منذ اكثر من قرن من الزمان.
ومن المهم أيضا، بل ربما الأهم لمن يتناول هذا الموضوع، ضرورة الحرص على نوع من الحياد الفكري والتماسك النفسي يجعله أقرب الى المراقب منه الى المنغمس في الحدث، وينآى به عن القيام بذلك كمهزوم لا يرى إلا نقاط القوة في عدوه، أو كمنتصر لا يرى إلا نقاط قوته هو.
ان ما جرى حتى الآن، يمثل انقلابا حقيقيا وجذريا ليس فقط في الاستراتيجيا بل وكذلك في الرمزية والمعنى الذي لا يقل اهمية. فنحن أمام مشهد متشابك ومعقد لكنه “حقيقي” اكثر وواضح اكثر. في هذا المشهد، صرنا أمام غزة مختلفة وفلسطين مختلفة، وكذلك اسرائيل مختلفة، و”دولة” عربية مختلفة واحتلال مختلف وغرب مختلف ورأي عام مختلف وكذلك مقاومة مختلفة، وبموازاة كل ذلك، أمام ثقافة مختلفة ومثقف مختلف.
في مسح سريع للمشهد، غزة قتل وتدمير وإبادة وتضحية وصمود وسمو ودخول الى وجدان كل ما هو آدمي. فلسطين بوصلة الانسان لانسانيته، ورافعة القيم النبيلة وايذان بنظام عالمي افضل، وانتقال من قضية (فلسطين) الى ايديولوجيا (الفلسطينية). اسرائيل “تفوق” فريد في الإجرام، وجلوس في موقع المجرم أمام القضاء الدولي ومحكمة التاريخ، ووعي “عالمي” مختلف بها. غرب منكشف تماما، ذلك الذي قدم نفسه حضارة ومدنية وديموقراطية وحقوق انسان، ظهر وجهه الآخر كمجرم وقاتل (أو مساعد قاتل) للأطفال وللانسانية. “دولة” عربية وُجدت لتُهزم، مشلولة بلا حراك، وإن فعلت فبالاتجاه المضاد، هي ضد “الأمة”، لذلك سلّم شعبها بعدم ضرورة مناشدتها، فهي في أحسن حالاتها وهي ساكنة، ربما يفك ذلك جزءا من “شيفرة” عدم خروج المظاهرات المؤيدة لفلسطين بالشكل المطلوب في الدولة العربية، فهي “نائمة لعن الله موقظها”. سوريا انقلاب درامي في المشهد، نظام معظم ما في داخله يشير الى ضرورة رحيله، وموقف سياسي “قومي” يشوش الصورة ويفرمل التفكير في ذلك. ذهب الذي كان ينبغي أن يذهب، وشكوك في مجيء الذي ينبغي أن يأتي، وأبواب مفتوحة على كل الاتجاهات.
على صعيد الوعي والمعنى، قول مختلف في النصر والهزيمة، وحدود ملتبسة بينها وبين الخسارة، فالخسارة موازين قوى والهزيمة قرار. الخسارة تصبح هزيمة اذا اعتبرها صاحبها نهاية الأمر و”ارتاح” لها، فالهزيمة “مريحة” والنصر “متعب”، وفي عدم الاعتراف بالخسارة بداية الطريق الى الهزيمة، وأسوأ ما في الهزيمة انكارها لأن ذلك سد للطريق أمام نصر القادمين، ففي الاعتراف بالهزيمة بعضٌ من نصر لأن فيه شيء من تسليم الراية للآتين.
الخسارة سياق والهزيمة سكون ونهاية، والخسارة التي لا تذهب للهزيمة التقاط للأنفاس، وإصرار على الاستمرار، وتأكيد للهدف. بهذا المعنى يمكن تفهم اللغة التي تم استخدامها في أعقاب حرب حزيران 1967 مثل “نكسة” (خسارة)، واعتبار بقاء النظام (أو الحفاظ عليه) “إنجازا” ما دام مُصر على المواجهة، رغم الضربة الموجعة للجيش وللدولة، لأن الذي اعقب تلك الحرب رفض لنتائجها، وإصرار على المواجهة (لاءات الخرطوم) وإعداد لها (حرب الاستنزاف).
كما يمكن اعتبار حرب أكتوبر 1973 هزيمة مكتملة الأركان، لأنها تُوجت بتطبيع، والتطبيع ليس فقط تبنٍ للهزيمة واحتفاء بها، بل حملها وتسليمها كاملة غير منقوصة للأجيال القادمة على شكل إنجاز، انه ليس فقط تخلٍ عن “السلاح” بل وضمان لذلك التخلي وإيمان به وتوريث له. هذا تماما هو الذي يعنيه حديث السادات عن أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وهذا ما يفسر موقف “الدولة” العربية مما جرى ويجري في غزة وفلسطين.
في المقارنة بين حربي 1967 و 1973 مشهد درامي متكامل، تخسر ولا تُهزم، تربح وتُهزم، تقيم المآتم بمناسبة عدم هزيمتك (رغم الخسارة) وتحتفل بهزيمتك (رغم عدم الخسارة).. منطق التجار وليس منطق التاريخ.
في هاتين الحربين تتعقد العلاقة بين المدخلات والمخرجات. في 1967، لأنك خسرت ولم تُهزم (لم تقرر أن تُهزم)، استمرت البوصلة في العمل كالمعتاد، بقي العدو عدوا والحليف حليفا، لكن في حرب 1973، لأنك استخدمت عدم خسارتك مبررا لهزيمتك، ولكي تبدو الهزيمة انتصارا، كان لا بد من استبدال العدو وتغيير الحلفاء، وأصبحت في أحسن حالاتك “وسيطا” بين صديقك الجديد ( عدوك السابق) وأمتك (سابقا) جيرانك الحاليين.
ينطبق ذلك ايضا على الحالة السورية؛ ففي المواجهات التي جرت منذ 2011 بين النظام ومناهضيه خسر النظام كثيرا كما خسرت المعارضة، مئات آلاف الضحايا وملايين اللاجئين وسقوط شبه كامل للدولة، لكن كل ذلك لم يُترجم على شكل هزيمة للنظام إلا عندما قرر فعل ذلك دون خسائر في نهاية 2024.
للهزيمة متطلبان وقرار، إنجاز ما، أو ما يبدو كذلك ( صورة انجاز)، و”شجاعة” أو ما تبدو كذلك، لإقناع النفس قبل اقناع الآخرين، أن قرار “الاستسلام” كان قرار حكمة وليس ضعف، وهو ليس قرار هزيمة إنما قرار نصف انتصار يكتمل بالتقائه مع نصف انتصار عدوه، ليصبح انتصارا كاملا لصديقين. (لحل تعقيدات ما قد يوجد من تجريد يمكن تخيل حرب أكتوبر 1973).
عودة الى الطوفان وارتداداته، فالانجاز الاسرائيلي لم يرتق الى حالة من النصر رغم كونه انجازا واضحا، ذلك أن الانجاز يتحول الى نصر عندما تكون هزيمة مقابلة يقر بها الخصم ويمتثل لمعطياتها، فلا منتصر من دون مهزوم، وغياب الهزيمة غياب للنصر.
كما أن النصر مرتبط في التاريخ بانجازات مقرونة بالأخلاق وبقيم الشهامة والمروءة والتسامح، وهذا ما لم يحدث ايضا في حالة اسرائيل في هذه الحرب، بل حدث عكسه تماما، إنجاز مقرون بالتوحش والجريمة والدناءة والخداع.
هذا ما يجعل القول بأن “المعتدي” اذا لم يحقق أهدافه فهو “مهزوم” أو كأنه كذلك، وبأن “المقاومة” اذا منعت عدوها من تحقيق أهدافه فهي منتصرة، كلام فيه الكثير من الصحة. فخسارة المعتدي جزء من هزيمته إلا اذا اقترنت بالقضاء التام على عدوه، وخسارة المقاوم جزء من تصميمه واثباتا لاستمراره في حال لم يتوقف. خسارة المعتدي خروج على حالة تفوقه “البديهية”، وخسارة المقاوم جزء من حالة ضعفه “البديهية” أيضا، والمعطاة سلفا، ولا تعني كثيرا في حال استمرار فعل المقاومة.
من المهم الأخذ بعين الاعتبار، أن الحديث عن الخسارة والإنجاز والهزيمة والنصر، في حالة اسرائيل، أمر يحمل معان اضافية؛ فاسرائيل دولة ليست ككل دولة، والاسرائيلي إنسان ليس كأي بشر، نحن نتحدث عن دولة استثناء وانسان استثناء، هؤلاء صُمموا كي يتفوقوا، وصورة التفوق عندهم مؤشر وجودهم، والخسارة شيء غريب عنهم، لذلك فإن الذي يعتبر خسارة عند دولة “طبيعية” هو أكبر من ذلك بالنسبة لإسرائيل، واخفاق اسرائيل في أمر ما، هو اكثر فداحة من ذلك لأن الخسارة والاخفاق شيئان “غريبان” عنها كما هو مفروض، وهما في النهاية صورة هزيمة للدولة التي يُفترض أنها لا تُهزم.
ربما يفسر ذلك تعتيم اسرائيل الكلي على خسائرها في هذه الحرب وتسليط الضوء بكل وضوح على خسائر عدوها، وكذلك الإفصاح التام لحزب الله عن خسائره. نحن أمام طرفين يحرص احدهما “اسرائيل” على أن لا تظهر خسائره لأنه يفهم الخسارة ضعفا وهي بالنسبة به كذلك، وهو لا يريد ولا يقبل أن يظهر بصورة الضعيف، ويحرص على إظهار خسائر عدوه “المقاومة” التي يفهمها ضعفا فيه ودليلا على “توحشه” الذي يفهمه صورة قوة. بالمقابل يعتبر الحزب إفصاحه عن خسائره تكريما لهم من ناحية دينية، ويبرز صورة استعداده للتضحية واصراره على الاستمرار رغم الخسائر.انها حرب الصورة وحرب المعنى، وهي لا تقل اهمية عن حرب السلاح في مساهمتها في صنع النصر أو الهزيمة.
أخيرا، في توضيح معنى (المعنى) يبرز دور المثقف، فدور المثقف المتفاعل مع قضيته حتى وهو يُظهر فداحة الخسارة أن لا يدفعها باتجاه الهزيمة، خاصة أن التجربة اثبتت أن الهزيمة لا توقف الخسائر في الحالة الفلسطينية. نجد أنفسنا أحيانا أمام مثقف يصعب فهمه إن كان يتوقع الهزيمة أم يتمناها. يُفترض في المثقف الذي يعتبر نفسه حاملا لفلسطين، القضية والمعنى، أن يضع النصر نصب عينيه، وأن يقول بعد ذلك ما يشاء.