دروس “الطوفان”: سوريا.. “فرحة” اللحظة و”قلق” السياق

بقلم: الدكتور إياد البرغوثي

لا يهدف هذا المقال الى تقييم ما جرى في سوريا من سقوط للنظام والأحداث التي تبعت ذلك، ولا الى اتخاذ موقف من هذا الحدث غير الوقوف مع حق الشعب السوري في “تقرير مصيره” ونيل حريته. انه حديث في المنهج الذي يتم فيه ذلك التقييم، وفي الحالة المصاحبة لذلك. هو قول في كيفية رؤية ما حدث؛ زاوية الرؤية والاطار والخلفية والسياق. هذا باعتقادي لا بد منه لفهمٍ اوضح لما جرى في مسألة غاية في التعقيد والتشابك، وكذلك غاية في الأهمية لضخامة وربما ل”فداحة” ما سيترتب عليه في قادم الأيام.

قبل البدء في الحديث عن جوهر الموضوع السوري، لا بد من الإقرار أن كل ما قيل وما سيقال في ذلك لا يجب، وليس من حقه، أن يقف أمام المشاعر التي عاشها المواطن السوري لحظة احساسه بالحرية، انها لحظة فرح حقيقية يجب أن تأخذ وقتها بالقدر الذي يراه صاحبها، فهي لحظة نادرة الحدوث في التاريخ، وخاصة في منطقة مثل منطقتنا، لكنها “للأسف” تبقى لحظة تقتحمها تعقيدات الواقع، تكرسها حينا وتفسدها احيان.

سوريا.. تختلف

عندما يتعلق الأمر بسوريا لا بد للمرء أن يدرك، أنه بقدر ما أن السوري انسان لديه من المشاعر والتطلعات مثله مثل اي انسان آخر، فإن سوريا ليست كغيرها من البلدان في “حميمية” علاقتها بالتاريخ والجغرافيا، وحملها من المعاني والرمزية ما لم يحمله اي بلد آخر في المنطقة.

في ما يتعلق بالتاريخ، سوريا بداية المجتمع الإنساني، ومهد المسيحية، و منشأ الشرق. وهي الدولة العربية الاسلامية الأولى، والفضاء الأول للصراع مع الغرب و”التفاعل” معه، منذ المعارك الأولى مع الروم، مرورا بالحروب الصليبية، والاستعمار الحديث والصراع مع إسرائيل وعلاقتها بفلسطين. وهي التجربة الأولى والحقيقية للوحدة العربية (المعاصرة)، والمقر الأول (وأرجو أن لا يكون الأخير) للعروبة هوية وفكرا وثقافة ولغة.

ومثلما هي مثقلة بالتاريخ فهي كذلك بالنسبة للجغرافيا، فسوريا الواقعة على الشاطيء الشرقي للمتوسط، والمطلة على آسيا وافريقيا واوروبا، والمتوسطة للقوى الكبرى في الإقليم، تركيا وايران ومصر و”إسرائيل”، والمحاذية لفلسطين (كل البلدان العربية شقيقات لفلسطين الا سوريا فهي أمها وشقيقتها في نفس الوقت)، وهي الممر الإجباري للتجارة العالمية قديما وحديثا، لذلك هي محط أنظار العالم، امريكا والغرب،  والصين وروسيا، فمن يحكم سوريا يتحكم بأهم مفصل في حركة العالم.

هذا الوضع جعل “المعنيين” بسوريا اكثر من اولئك المعنيين بأي بلد آخر في المنطقة. في سوريا تقطع امريكا الطريق على الصين، وتضع يدها على احتياط ضخم من النفط والغاز، وتحمي اسرائيل. وفي سوريا الصين تضبط “طريق الحرير” وتجارتها مع اوروبا والعالم. وروسيا تصل الى المياه الدافئة، وتعزز ايران امنها القومي وتتواصل مع حلفائها، وتُحْيي تركيا تطلعاتها وتعزز نفوذها وترفع قيمتها الاستراتيجية. وإسرائيل تتمدد وتحقق “مشروعها” وتحارب “اعداءها”، والأشقاء يقومون “بواجباتهم” ويستعرضون قوتهم ويعوضون “ضعفهم” أمام اسرائيل… كل ذلك في سوريا. هذا يشير الى أن الصراع على سوريا هو صراع دولي بامتياز.

سقط النظام.. ماذا عن الدولة؟

لكثرة المشاركين في الصراع على سوريا ولتعدد اهدافهم وطبيعة مساهماتهم، ليس من السهل التمييز إن كان الذي سقط في سوريا هو النظام أم الدولة أم كليهما. على المستوى الداخلي، من الصعب القول أن الشعب السوري بأكمله قد ثار على النظام كما جرى في “ربيع” مصر وتونس على سبيل المثال، فالتركيبة الاجتماعية والاقتصادية للسوريين ربطت مصالح فئات ليست قليلة منهم خاصة في المدن بالنظام، وجعلت فئات ليست قليلة أخرى مترددة تجاه “الثورة” نظرا لخوفها من “المجهول” الذي سيأتي. من المهم أن نعرف أن حجم “المجهول” بعد سقوط النظام في سوريا هو أكبر بما لا يقاس بحجمه في مصر وتونس وبلدان الربيع العربي الأخرى، نظرا لأن التغيير المطلوب في سوريا لا يقتصر على النخبة الحاكمة، بل يطال الدولة وهويتها ومستقبلها وتموضعها الاستراتيجي وخياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

لذلك كان التساؤل حول ما اذا كان الذي جرى في سوريا إسقاط للنظام أم للدولة. على الأغلب كانت إرادة معظم السوريين إسقاط النظام، لكن ذلك لم يكن بالضرورة عند  “اللاعبين” الآخرين. هذا ما تدل عليه مجريات الأحداث مقارنة بتلك التي جرت في بلدان الربيع الأخرى.. (ربما حالة العراق هي الأقرب الى سوريا في هذا الإطار).

هل كان خروج مساحات شاسعة من الجغرافيا السورية عن الدولة متطلبا لاسقاط النظام؟. ولماذا تطلب “الربيع” السوري إقامة قواعد أمريكية على الأراضي السورية رغم إرادة النظام وتم تعزيزها بعد سقوطه؟. ولماذا احتلت اسرائيل اراض سورية اضافية ودمرت الجيش السوري ومقدرات الدولة السورية بعد سقوط النظام، ومجيء آخر يعلن صراحة أن اسرائيل ليست عدوا له؟. ولماذا حاصرت امريكا سوريا بقانون قيصر ولم تفعل ذلك في مصر أو تونس أو غيرها؟. هذه الأسئلة وغيرها تشير الى أن المستهدف “دوليا” في سوريا هو الدولة السورية التي أخذت عمليا بالسقوط حتى عندما كان النظام يحقق “انتصاراته”.

في ظرف “تاريخي” خاص” تلاقت “ارادة” الشعب السوري في سقوط النظام مع الإرادة الدولية(الغرب بما فيه اسرائيل، وتركيا والدول العربية) في سقوطه، (لكن إرادة الأطراف الدولية على ما يبدو امتدت الى ضرورة إسقاط الدولة السورية على الأقل بالوضع الذي مثلته في تاريخها المعاصر). إرادة الشعب إسقاط النظام لاستبداده وفساده، لكن ذلك لم يكن بالتأكيد سبب الرغبة في اسقاطه غربيا واسرائيليا وتركيا وعربيا، بل أكاد أجزم أن فساد النظام واستبداده، هما سبب تردد هؤلاء في إسقاط النظام وسبب “تسامحهم” معه.

لم يختلف النظام السوري السابق كثيرا (من المبكر الحديث عن النظام الحالي) عن أنظمة المنطقة في موضوع الاستبداد والفساد، والاختلاف إن وجد يكون في التفاصيل لا أكثر، لكن ما تميز به ذلك النظام عن “اشقائه” هو (وهنا أدرك مدى المغامرة التي أقوم بها) موقفه من فلسطين وإسرائيل والتطبيع والتموضع في الخيارات الاستراتيجية الكبرى. لا يهم كثيرا إن كان تميزه ذلك جديا أم شكليا اذ يبقى ذلك تميزا.

بعيدا عن إرادة الشعب السوري، الذي أسقط النظام غربيا واسرائيليا وتركيا و”عربيا” هو الإيجابي فيه وليس استبداده وفساده. انه الرغبة في إضعاف سوريا والهيمنة عليها وعلى مقدراتها وسلبها دورها التاريخي حيال “الأمة” وحيال فلسطين. لإسقاط سوريا الدولة، اجتمعت المصلحة الغربية والاسرائيلية والتركية مع “الغيرة” العربية. نعم “الغيرة” وأقولها بكل جدية أن اغتيلت “غيرة” اذ فيها الكثير مما “يحسدها” عليه النظام العربي، وبتقديري أن من يُسقط “الغيرة” في موضوع العلاقات البينية العربية يفقد الكثير من ادواته.

سياق السقوط.. ومسألة الفرح والقلق

مرة اخرى، ليس أجمل من لحظة حقق فيها الشعب حريته أو بدا له أنه يحققها (هذا “جربه” الفلسطينيون ايضا بعد أوسلو)، ومن حق الشعب بالتأكيد أن يعبر عن فرحه بذلك وأن يبلغ هذا الفرح مداه، وعلى الآخرين تفهم هذا الشعور وعدم التشكيك في حقيقته والانتقاص من مشروعيته. لكن في نفس الوقت، لا يجوز أن يقف ذلك الحق في الفرح لما جرى،أمام أمر آخر لا يقل اهمية هو “الحق” في القلق، خاصة في هذه الحالة السورية التي طويت فيها صفحة النظام بما لها وما عليها، وفُتحت كل الأبواب على المجهول، الذي يزيد من غموضه طبيعة اللاعبين وتناقضاتهم و”سيرهم الذاتية” المريبة.

نعم سقط النظام، هذا هو الحدث، لكن سياق ذلك، حرب إبادة في غزة، وأخرى طاحنة على لبنان، واحتلال اسرائيل لأراض سورية جديدة بعد سقوط النظام وتدمير الجيش السوري وتجاهل العالم لذلك إلا امريكا التي “تفهمت” ذلك، واعلان نتنياهو بالشروع في شرق اوسط جديد وإقامة اسرائيل الكبرى، وتعزيز القواعد العسكرية في سوريا، وإعلان ترامب عن ضرورة توسيع اسرائيل، واجراءات تركية “غير مريحة” .

أليس هذا كافيا لجعل الشعور بالقلق مشروعا؟. ان الموقف من “الماضي” لا يكفي لاضفاء الشرعية على “المستقبل”، وسوء الذي مضى ليس ضمانا لجودة الآتي، ومكان فيه اسرائيل لاعب “نشط” ليس من حق أهله القلق، بل ومن واجبهم ايضا.

زر الذهاب إلى الأعلى