حسن إسميك يكتب المسيحيون… ملح الأرض للحضارة العربية

حسن إسميك

سمعت للمرة الأولى بالهجرة عندما ودعت صديقي في الأردن ونحن ما زلنا أطفالاً، ليهاجر هو وعائلته بجميع أفرادها إلى أميركا. ظننت يومها أن معنى الهجرة يرتبط فقط بذهاب عائلة كاملة إلى أميركا تحديداً من دون إياب.

تذكرت تلك الحادثة لما علمت أخيراً بسفر صديقي جورج تاركاً خلفه بيروت التي أحبها، بعدما أنهى أعماله وباع جميع ممتلكاته، وهاجر إلى باريس ليبدأ فيها عملا جديداً وحياة جديدة. سبقه أيضاً أحد الأصدقاء من أعرق عائلات دمشق المسيحية، اختار بدوره ألمانيا ليعيش فيها بعدما تعطلت به سبل العيش بسبب الحرب، كما تعطلت أعمال غيره من المسيحيين وسبل عيشهم في دول عربية عدة لأسباب مختلفة.

ومع أنني أشعر بالحزن لأي هجرة قسرية، إلا أن هجرة المسيحيين ممن أعرفهم ولا أعرفهم تزيد حزني غصة لأن رحيلهم يعني خسارتنا الكبيرة لشركائنا في هذه الأرض، فهم ليسوا مجرد أشخاص يمضون، بل ما يغيب حقيقة هو تاريخ الوجود المسيحي الذي يتغلغل في المنطقة العربية كمكوّن رئيسي في تاريخنا جميعاً. فالمسيحية لم تكن يوماً ما طارئة على هذه البلاد أو ذات حضور ثانوي فيها، بل إن جذورها ضاربة في عمق التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده. ولا شك عندي أن التعايش الطويل الأمد مع أشقائنا المسيحيين، وغيرهم، كان أحد أهم أسباب التنوع والتعدّد الذي حظيت به الأمة العربية، والذي أضاف إليها أهم أسباب حضارتها وتطورها، وأضفى عليها جمالاً وبهاء قلّ نظيرهما في العالم كله.

والواقع أن المسيحيين قدّموا مساهمات قيمة أغنت حياتنا في مراحل مختلفة. وإذ يُجمِع المؤرخون على أهمية الدور الذي لعبه المسيحيون في النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإن جهودهم الرامية إلى إحياء حضارتنا لم تبدأ حينذاك، بل هي ضاربة الجذور عميقاً في تاريخ المنطقة. وهم رسموا إلى جانب المسلمين في محطات زمنية مختلفة، ملامح ثقافتنا العربية الإسلامية.

ساعدت المسيحية في التهيئة للإسلام، وكان لها كبير الأثر في انتصار الرسالة المحمدية على الكفر وعبادة الأوثان. فهي حمت الإسلام والمسلمين منذ انطلاق الدعوة بادئ الأمر، حين سمح الرسول لمجموعة من المؤمنين، بينهم ابن عمه عبد الله بن جعفر، بالهجرة إلى الحبشة التي كان يحكمها النجاشي، الذي كان بالفعل أهلاً لثقة النبي فأكرمهم وأحسن وفادتهم ورفض مغريات قريش كلها وما قدمه رجالها من رشوة مقابل تسليمهم.

وعزّز قيام الدولة الإسلامية، وفتوحاتها، مكانة المسيحيين في المنطقة، لاسيما أنهم عملوا منذ القرن الهجري الأول على تثبيت أركان الدولة الإسلامية، من دون أن يتخلوا عن ديانتهم، فبقي الأقباط في مصر، والموارنة في لبنان، والتغالبة في الجزيرة على دينهم وفي أرضهم، وتابعوا بناء الكنائس واستمرت الأديرة بأداء أدوارها الحضارية، معرفية وفكرية وتوعوية، في المنطقة بأكملها.
وعندما دق الإسلام أبواب دمشق بعد انطلاقته الأولى، جاءت الاستعانة بالمسيحيين كضرورة وخطوة ذكية لإنجاز “مشروع بناء الدولة” لما عُرف عنهم من علم وتحضّر، فساهموا في إرساء الدعائم الفكرية للدولة بصورة أدهشت المؤرخين.

ولم يغيّر تحوّل عاصمة الخلافة إلى بغداد التي تكونت من مجتمع متعدد الثقافات والديانات واللغات والأعراق، بل زاد من التأثير المعرفي للكنيستين السريانية والآشورية. لقد عمد المسلمون إلى تشرُّب معارفِ من سبقوهم، وكان للمسيحيين دور في ذلك، من خلال الترجمة على وجه الخصوص، إذ نقلوا الدراسات والبحوث إلى العربية من اليونانية تارة، ومن السريانية والفارسية تارة أخرى.

لا شك أن للترجمة دوراً جوهرياً في عملية التلاقح بين الحضارات ومدّ جسور التواصل بين الثقافات. وفي طليعة الفضائل التي يعترف بها الغربيون للعرب هو ما فعلوه على صعيد ترجمة المعارف اليونانية المتقدمة حينذاك في الطب والفلسفة والفلك وغيرها ما أتاح للأوروبيين الاطلاع عليها.

والحق أنه كان للمسيحيين اليد الطولى في هذه الإنجازات، إذ تشير دراسات إلى أن نسبة المترجمين منهم الذين ساهموا في نقل التراث الهلنستي إلى العربية بلغ 90% من مجموع المترجمين. ولمعت أسماءٌ مسيحية كثيرة في عالم الترجمة، في مقدمها حنين بن إسحق الذي كان طبيباً لخمسة خلفاء من العباسيين، وموضع ثقتهم ورعايتهم، وترجم نحو 100 كتاب من اليونانية إلى السريانية، و37 كتاباً إلى العربية، كما كان سفيراً عالمياً للثقافة والمعرفة، جال أرجاء العالم بحثاً عن الكتب والمخطوطات، وأقام علاقات مع الروم والبيزنطيين من أجل هذه الغاية. ونقل مع يحيى بن عدي وقسطا بن لوقا كتب أفلاطون وأرسطو إلى العربية.

وترأس حنين بن إسحق بيت الحكمة عندما صار مركزاً للترجمة في عهد الخليفة المأمون، وكان والده الخليفة هارون الرشيد قد أنشأه أولاً كمكتبة تضم عيون الكتب في شتى علوم ذلك العصر. وخلفه ابنه إسحق على رئاسة تلك المؤسسة التي صارت في عهديهما منارة للبحث العلمي والتأليف، ثم داراً للعلم تُلقى فيها الدروس وتصدر عنها الإجازات العلمية. وأصبحت هذه الأكاديمية العالمية المرجع الأول لبناء العقل العربي في أوج إزدهار الدولة الإسلامية، ومركز تواصل حضاري مع العالم القديم يفد إليه طلاب المعرفة من أوروربا وإفريقيا وشرق آسيا. ومن أبرز مترجمي الدار من المسيحيين يوحنا بن ماسويه، وجبريل بن بختيشوع، والحجاج بن مطر، ويوحنا بن البطريق، وعبد الملك بن ناعمة الحمصي، ومتى بن يونس، وثابت بن قرة، وغيرهم. ولم تقتصر الترجمة على نوعٍ معرفي من دون غيره، بل شملت كتب الطب والفلسفة والفلك والتاريخ والرياضيات وغيرها من مجالات العلوم والفنون.

على صعيد متصل، يعيد البعض التعاون بين المسيحيين الشرقيين والإسلام إلى الظلم الذي تعرضوا له على يد الروم والفرس، وهذا نصف الحقيقة. أما نصفها الآخر فيرتبط بالانتماء إلى هذه الأرض، وهو شعور يختلج في قلوب السريان أو العرب، ممن آمنوا أن مصيرهم واحد كما أنَّ أرضهم واحدة فتعاونوا لجعلها منارة للبشرية.

تجدر الإشارة إلى مفارقة كبرى في هذا السياق، وهي أن بداية تراجع الوجود المسيحي في المنطقة وتحول المسيحيين إلى أقلية لم يكونا بسبب الفتوحات الإسلامية بل جرّاء الحروب الصليبية (1095-1291)، إذ قُتّلوا مع المسلمين على أيدي الغزاة الصليبيين وسقطوا معهم ضحايا النيران المشتعلة بين الشرق المتعدد الأديان والغرب المسيحي.

وعندما دخلت الحضارة العربية الإسلامية في “عصر الانحطاط”، بسبب ما فرضه العثمانيون من عزلة على بلاد العرب بمكوناتها كلها طوال أربعة قرون كاملة، تراجعت أوضاع المسيحيين، شأنهم شأن المسلمين. وهذا دلّ مجدداً على وحدة الحال بين أصحاب الديانتين، والتي تتصل بلا شك بوحدة المصير والمصالح والتاريخ المشترك.

في هذا الإطار، خاض الشرق، بمسلميه ومسيحييه، حرباً حضارية ضد عدو تركي مشترك، فكان تحالفهم مبنياً على الانتماء الوطني وليس الديني، وانتصروا على الاستبداد العثماني. وما أحوجنا اليوم إلى وئام مماثل وتوحيد مشابه لكلمة الأديان الثلاثة في المنطقة العربية.

والحق أن ثمة حاجة ماسة حالياً إلى المشاركة الجادة بين الأديان، وإلى بلوغ فهم أفضل لتاريخ العلاقات بين الأديان السماوية الثلاثة، بعيداً عن نتائج التدخل السياسي والعسكري الغربي مطلع القرن الماضي واتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية، ودورها في رسم معالم الصلات اللاحقة، خصوصاً بين المسلمين والغرب، مروراً بإقامة دولة إسرائيل، وصولاً إلى الصعود المفاجئ للإسلام السياسي والتنظيمات الجهادية التكفيرية، والحروب في العراق وسورية. ولا ننسى الآثار السلبية التي خلفتها الاضطرابات السياسية والأمنية على العرب المسيحيين، واليهود كذلك.

لقد أثبت المسيحيون العرب أنهم أبناء الثقافة العربية أينما حلوا، وهم أبناءٌ بارُّون لأرضهم وأشقائهم. ويحكى أن فارس الخوري الزعيم الوطني، الذي لعب دوراً رئيساً في تأسيس الجمهورية العربية السورية، سمع ما قاله الجنرال غورو إن فرنسا جاءت إلى سوريا لحماية مسيحيي الشرق، فما كان منه إلا أن توجه إلى الجامع الأموي في يوم جمعة ليقول من على منبره “إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله”، فهبّ مسلمو المدينة ومسيحيوها للتظاهر احتفاء به ودفاعاً عن العيش المشترك، في مشهد وطني لا ينسى.

المسيحيون المشرقيون صمّام الأمان في المنطقة، وهمزة الوصل بين الأديان الأخرى من جهة، وبين الشرق والغرب من جهة ثانية، بفضل علاقاتهم المعتدلة مع الأطراف كلها.

نقف اليوم جميعاً أمام مسؤولية تاريخية لنعيد للتنوع الذي تمتاز به منطقتنا رونقه كمصدر غنى حضاري، فيبث الحيوية من جديد في مجتمعاتنا، ويجعلها متسامحة، والجميع فيها شركاء في صناعة التنمية وبناء السلام. ليست هذه طوباوية بل هدف واقعي ممكن التحقيق، وهناك مثال بارز من التاريخ العربي يؤكد ذلك، وهو “أيبيريا الإسلاميَّة”، الأندلس الجميلة، التي أثبتت أن الحضارة العربية ليست إسلامية خالصة، بل إسلامية مسيحية وإلى حدٍّ ما يهودية. لقد عكست التجربة الأندلسية تفاعلات متناغمة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، وشكّلت في العصور الوسطى بيئة تعايش فيها أتباع الأديان هذه باحترام وتقدير متبادلين.

جدير بالذكر أنه في الوقت الذي تغيب فيه هذه التجربة المشرقة عن أذهان الجميع، لم يفت دولة الإمارات العربية المتحدة أن تنتبه إلى هذه الحقيقة، وتعمل على تكرارها بشكل أكثر انسجاماً مع روح العصر، وأشدّ شجاعة أيضاً إذا ما أخذنا في الحسبان السياقات والديناميات السياسية في المنطقة والعالم اليوم. فها هي الإمارات تعكف على إقامة “بيت العائلة الإبراهيمي” الذي سيضم كنيسة ومسجداً وكنيساً تحت سقف واحد، والمزمع افتتاحه عام 2022، ليكون عنواناً للتسامح الديني والأُخوّة الإنسانية، ومنطلقاً لبناء السلام.

تؤكد رسالة الإمارات اليوم أن الوقت قد حان لرفض أيديولوجيات التعصّب التكفيري، وكل المحاولات المعادية للسلام التي تنكر على العرب حقهم بالعيش الكريم والآمن، وتتسبّب بالقتل والتهجير والتدمير، وبإفراغ عالمنا العربي الإسلامي من عناصره الرئيسة، وفي مقدمها المكون المسيحي، والذي كان وسيبقى مؤثراً في تركيبة الشرق الحضارية، باعتباره بمنزلة ملح الأرض العربية الإسلامية.

زر الذهاب إلى الأعلى