تنهدات مع نص “تنهيدة” للشاعرة رفعة يونس
بقلم: زياد جيوسي
ما أن أنهيت قراءة هذا النص الجميل للشاعرة رفعة يونس حتى كنت أخرج تنهيدة من صدري، والتنهد في اللغة هو أخراج نفس مكبوت في الصدر بسبب الألم، فمن منا يمكنه أن لا يتنهد متألما منذ “أنْ غادرَ الياسمينُ، مدائنَهُ”، ونشاهده قد “انتهى.. فوقَ أرصفةِ الحُلْمِ”، وبرمزية قوية ملفتة للقارئ نرى أنه قد: “تاهَ الحبُّ” أيضا فوق: “أردافِ الغيْبِ”، فعندها: “أتانا الحزن والألم وحشرت الأنفاس في الصدور:”وصارَ لنا ..تنهيدةَ وعدٍ، أمنيّةً..”، فالحلم قد: “نأى ….عنْ عيونِ الشّمسِ”، والحلم قد غاب: “عنْ رعشةِ الصّدرِ”، فنحن نعاني وتزداد المعاناة: “منذُ أنْ شاخَ القلبُ”، وازداد الألم وازداد التنهد، فالحلم الذي كنا نحلم: ” أغرَقَ شالاتهِ، في مرايا الوهمِ” وحلق بعيدا: “عنْ زغرودتِهِ البكْرِ …في الحُنجرة”.
وقبل أن يختفي في ظل الغياب بعيدا عن العشق والحب، أشار لنا نحن المتألمون: “وودّعَ ما كانَ، في مُقلةِ الوقتِ”، فهو خسر الكثير كما فقدنا الكثير: “منْ جَمْرِ العِشــقِ، منْ أفياءِ الحكايا”، فنحن والحلم قد افتقدنا: “بَوْحِ النَّــدى ……لِرفيفِ الوردِ”، فالحلم لم يعد يستطيع البقاء في الظلم الذي حل بالمستضعفين في غزة وفي كل بقاع الأرض فــ” لَملَمَ نجــوى الخُزامى، من حَــدَقــاتِ المَــدى..ومضــى”، وهمسات الأرواح والأحلام و:” أناشيدِ الوجــدِ” دفنت نفسها: “في شجوِ القُبَّــرة”، وذهب الشدو الحزين للناي وأختبأ: “خلْفَ ســاقيةٍ لِلغــروبِ، وناياتِ الفجــرِ”، فلم يتبق لنا شيء سوى الأمل أن يعود الحلم من بعد ما حلق بعيدا: “منــذُ أَنْ شــاخَ القلبُ، وأعــلَنَ محــواً لِلذاكِــــرة”.
بعد ما سبق من تناص لنص “تنهيدة” للألقة رفعة يونس، نجد أننا أمام نص قصير ومكثف كتب بتنهدات عالية الحساسية، وهو ناتج عن شعور عميق بالخيبة مما يحيط بالشاعرة من خيبات في الوطن المحتل والدول العربية الأخرى، فغلب على النص طابع الحنين المترافق بالألم والحزن، فالنص حفل بالرمزية العالية والمكثفة وكان محوره الفقد الذي تمثل بالحلم، والاغتراب النفسي والإغتراب العاطفي بسبب المحيط والخذلان، فرفعة هنا تجسدت كوطن قامت بأنسنته في شِعرها، مستخدمة الرمزية كما في “غادر الياسمين مدائنه”، فالياسمين يتميز بالجمال وجمال العبق والعطاء من عطره طوال عمره، متجدد العمر والزهور والأغصان، فغادر الياسمين الشاعرة كناية عن الألم ورحيل الحلم، وكذلك رمزية “ساقية الغروب” حيث النهاية مع اليأس
نلاحظ في النص وجدانية عميقة وإن كانت متألمة فخرجت من الصدر على شكل تنهيدة قوية، فهي شعرت أنها تمر بمرحلة من الانطفاء العاطفي وتشعر أنها ذوت وهذا يظهر واضحا في عبارات “شاخ القلب/ أعلن محوا للذاكرة”، في اشارة لطول فترة المعاناة التي تخمد نار القلوب وتشيخ العقول وتفقد الإنسان الأمل وتطفئ العشق، فالفقد كان محور النص، وإن اعتمد النص على الاستذكار لما مضى فتجلى فيه الحنين، وكل ذلك تجلى في اللغة القوية والمكثفة للنص الذي برزت فيه الرمزيات والاستعارات مثل: زغرودته البكر في الحنجرة/ أغرق شالاته في مرايا الوهم/ أناشيد الوجد في شجو القبرة، وغيرها من اللوحات المرسومة شِعرا، إضافة لاستخدام الرموز من الطبيعة مثل: الغياب، الشمس، الياسمين، فأتت الرمزيات غير محشوة حشوا بالنص بل منسجمة معه وطبيعية، فتتالت اللوحات والصور المدهشة، والتي تجعل القارئ يتخيلها كصور بصرية وصوتية معبرة.
هذه اللوحات والصور في النص تجعل القارئ يغوص في عمق هذه الأبعاد التأملية بتفاعل شعوري كبير، متفاعلا مع الجرس الموسيقي والإيقاع الموسيقي الداخلي للنص الذي يميل للشعر الحر واللوحات الشعرية، فيشعر القارئ المرتبطة روحه بجمال الشِعر بينبوع من العاطفة المتدفقة منبثق من داخله باندغام مع النص، رغم كل الشعور بالفقد واليأس، فجمع النص مثلث الشعر: روح الشعر، الكلمات، القارئ، بجمال فني وشعور عميق ولغة شفافة بعيدة عن الخطابية والتقعر باللغة والمبالغة في التصوير والرمز، وهذا كله يصب في مصلحة وقدرات الشاعرة رفعة يونس والتي سبق لي أن قدمت لأكثر من ديوان لها قراءات نقدية، وهمسات تناص وتحليل للعديد من نصوصها، والتي تتميز عادة بالتكثيف اللغوي والصور الشعرية والإيقاع الموسيقي ووحدة النص وتسلسل الفكرة.
“جيوس 14/1/2025”
تنهيــدة
رفعــة يونــس
منذُ أنْ غادرَ الياسمينُ
مدائنَهُ
وانتهى…
فوقَ أرصفةِ الحُلْمِ
أردافِ الغيْبِ
تاهَ الحبُّ
وصارَ لنا ..تنهيدةَ وعدٍ
أمنيّةً …
ونأى ….عنْ عيونِ الشّمسِ
وعنْ رعشةِ الصّدرِ
عنْ زغرودتِهِ البكْرِ …في الحُنجرة ..
منذُ أنْ شاخَ القلبُ
أغرَقَ شالاتهِ
في مرايا الوهمِ
وودّعَ ما كانَ
في مُقلةِ الوقتِ
منْ جَمْرِ العِشــقِ
منْ أفياءِ الحكايا
وبَوْحِ النَّــدى ……لِرفيفِ الوردِ
أناشيدِ الوجــدِ
في شجوِ القُبَّــرة
منــذُ أَنْ شــاخَ القلبُ
لَملَمَ نجــوى الخُزامى
وناياتِ الفجــرِ
من حَــدَقــاتِ المَــدى ……ومضــى
خلْفَ ســاقيةٍ لِلغــروبِ
وأعــلَنَ محــواً لِلذاكِــــرة .