الوداع المؤجل في غزة… جثامين تبحث عن أسماء

غزة –  سعدية عبيد

في ساحة مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس، تتجمّع عشرات العائلات بعيونٍ مثقلة بالدموع وقلوبٍ ينهشها القلق والرجاء. أمام الشاشة الكبيرة التي نصبتها وزارة الصحة، تُعرض تباعًا صور الجثامين التي أعادها الاحتلال الإسرائيلي بعد احتجازها لأشهرٍ طويلة.
وجوهٌ غابت عنها الملامح، أجسادٌ أنهكها التعذيب، وأرقامٌ تستبدل أسماء الأحبّة في لائحة الموت الطويلة.

كل صورةٍ تُعرض، تُوجع قلب أمٍ وتكسر صمت أبٍ،
وفي كل لقطةٍ، أملٌ أخير بأن ينتهي الانتظار… ولو بالدموع.
الاحتلال يُعيد 135 جثمانًا… وملامح الجريمة تُروى بالصورة
خلال الأيام الماضية، سلّم الاحتلال عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر 135 جثمانًا لشهداء فلسطينيين، كانوا محتجزين منذ شهورٍ في ظروفٍ غامضة.
لكن المشهد عند تسليمهم كان صادمًا، فمعظم الجثامين وصلت وعليها آثار واضحة للتعذيب والإعدام الميداني.
كشفت التقارير الطبية في غزة أن العديد منها كان يحمل كدمات، وحروقًا، وآثار خنقٍ وتكبيلٍ بالأسلاك المعدنية، إلى جانب طلقاتٍ نارية من مسافاتٍ قريبة، وأجسادٍ بدت عليها علامات دهسٍ بجنازير الدبابات.
وأكدت وزارة الصحة أن هذه الأدلة تشكّل “توثيقًا دامغًا لجرائم حربٍ ارتُكبت بحق الأسرى والمفقودين الفلسطينيين”، بينما لا يزال 131 جثمانًا مجهول الهوية بانتظار التعرّف عليها.
لجنة الشهداء… وجعٌ يُدار بالدموع والملفات
في زاويةٍ من مجمع ناصر الطبي، تعمل لجنة إدارة الشهداء في غرفةٍ صغيرة تفيض بالأوراق والصور.
تستقبل اللجنة يوميًا عشرات العائلات التي تحمل صور أبنائها أو مقتنياتهم، لعلّها تجد تطابقًا مع ملامح الجثامين المجهولة.
تقول إحدى المتطوعات في اللجنة:
“في كل مرة تتعرّف أمّ على ابنها من جرحٍ أو قطعة ثوب، بنشعر إنو الجرح بيتفتح من جديد… ما في وداع، في فقط تأكيد للفقد.”
و دعت وزارة الصحة الأهالي إلى مراجعة اللجنة يوميًا (عدا الجمعة) من الساعة التاسعة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، أو الدخول إلى الرابط الإلكتروني الرسمي.
أربع عائلات… وصدمة اللقاء الأخير
اللحظات الأولى لأربع عائلات فلسطينية حين تعرفت على جثامين أبنائها كانت أقسى من أن تُوصف.
تلك العائلات التي انتظرت شهورًا طويلة على أمل عودة أبنائها أحياء، وجدت نفسها أمام الحقيقة الصادمة:
أجسادٌ مثقوبة بالرصاص، وجلودٌ محروقة، ووجوهٌ شوهها التعذيب الممنهج.
تقول والدة أحد الشهداء بصوتٍ مختنق:
“كنت أحلم أضمه حي، ما كنتش أتوقع أتعرف عليه من خاتم بإيده.”
بينما يروي والد شاب آخر:
“لما شفت صورته، ما قدرت أتعرف عليه من وجهه، بس من الجرح اللي بإيده… نفس الجرح اللي انجرح فيه وهو صغير.”
تلك اللحظات القاسية تختصر عمق الفقد، حين يتحول التعرف على الأحبة إلى رحلة بحثٍ بين الجثث المشوّهة والملابس الممزقة.
في غزة، ما زال الوداع مؤجلًا، والعدالة غائبة.
كل مشهدٍ في مستشفى ناصر يختصر حجم المأساة،
وكل رقمٍ على الشاشة يحمل بين طيّاته جريمةً تبحث عن اعترافٍ وإنصاف.
ورغم توثيق الانتهاكات بالصوت والصورة،
يبقى الصمت الدولي هو العنوان الأبرز،
فيما يواصل الأهالي بحثهم بين الصور والوجوه عن بقايا أملٍ أو أثرٍ لغيابٍ موجع.
غزة اليوم لا تنتظر تعاطفًا، بل مساءلة حقيقية،
فما يجري ليس مأساةً إنسانية فحسب،
بل وصمة عارٍ على جبين العدالة التي تأخرت كثيرًا عن هذه الأرض.

نقلا عن “معا”

"الوداع المؤجل في غزة... جثامين تبحث عن أسماء"
"الوداع المؤجل في غزة... جثامين تبحث عن أسماء"
"الوداع المؤجل في غزة... جثامين تبحث عن أسماء"
"الوداع المؤجل في غزة... جثامين تبحث عن أسماء"
زر الذهاب إلى الأعلى