“المبادلة والمقايضة”.. البيع والشراء في غزة يعود عشرات السنين

غزة – “القدس العربي”:
بمشقة كبيرة يحاول سكان غزة الذين يعانون من ويلات الحرب والحصار، التأقلم مع ظروف الحرب بالحد الأدنى من الإمكانيات، وفي مقدمة ذلك تقف مشكلة الطعام التي تعد الأكبر والأبرز، فيما خلقت مشكلة توفر العملة النقدية نظرا لندرتها واهتراء المتوفر، بالإضافة إلى ارتفاع أثمان السلع بشكل جنوني أزمة كبيرة، حالت دون قدرة المواطنين على انجاز عمليات الشراء المباشر “الطعام مقابل المال”.
حياة الأجداد
وفي غزة حاليا تشابه ظروف حياة السكان المنكوبين ما كان عليه الآباء والأجداد قبل عشرات السنين، فالغالبية من سكان غزة اضطرت لترك منازلها المبنية من الحجارة والخرسانة وسكنت الخيام، إما لتدمير منازلهم التي بنوها بتعب السنين، أو لوقوعها داخل مناطق الهجمات البرية للجيش الإسرائيلي، وبالإضافة إلى ذلك بات الجميع في غزة يعيش ظروف الحياة القاسية التي كانت سائدة مع بدايات احتلال فلسطين، حيث اعتماد الأسر على مواقد النار البدائية في تحضير الطعام والخبز، وكذلك الاعتماد على الفعل اليدوي في الأعمال المنزلية، بدلا من الأجهزة الكهربائية، وبات التنقل في غالبيته يعتمد على العربات التي تجرها الأحصنة أو الحمير، بدلا من العربات التي إما تعطلت أو نفد وقودها.
وحاليا وبعد معايشة الكثير من ظروف الحياة المشابهة لحياة الأجداد، أصبح أمر “مبادلة” و”مقايضة” الطعام أمرا دارجا، يحاول من خلاله سكان غزة التغلب على ظروف الحياة الصعبة، فالعوائل التي تملك نوعا دون الآخر من الطعام، ما يحول دون قدرتها على تحضير صنف طعام كامل، أو تملك طعاما ولا تملك نقدا، أصبحت تتعامل بهذه الطريقة.
مبادلة الغذاء
ففي أماكن النزوح في معسكرات الخيام أو داخل مراكز الإيواء، أو بين الأحياء التي لا تزال مأهولة، تتبادل الجارات أمر المبادلة، فالسيدة شيرين خطاب التي عاد إليها أحد أنجالها بطرد غذائي بداخله كمية من الدقيق والزيت والمعكرونة والطحينية والمربى، دفعتها حاجتها لكمية من العدس والقليل من السكر، لمبادلة ذلك مع إحدى جاراتها، وتقول هذه السيدة لـ”القدس العربي” إن الأمر يتم من خلال تثمين كل سلعة، ومبادلتها بالقدر الذي يعادل ثمنها، فمثلا نصف كيلوغرام الدقيق يبادل بكيلوغرام من العدس، فيما يبادل القليل من السكر بكيلوغرام دقيق.
يتم تثمين كل سلعة، ومبادلتها بالقدر الذي يعادل ثمنها، فمثلا نصف كيلوغرام الدقيق يبادل بكيلوغرام من العدس، فيما يبادل القليل من السكر بكيلوغرام دقيق
وتضيف هذه السيدة التي أنهكها العمل اليدوي “شو أعمل، الوضع صار صعب جدا”، وتضيف “ما عمري تخيلت أعيش هيك ظروف، اليوم ما في مصاري (عملة نقدية)، والموجود منها ما بقبله البياعين، وكثير من الناس صارت تبدل الاكل”.
وفي سوق دير البلح وسط قطاع غزة، يقبل “أبو سامي” التاجر الذي تجاوز منتصف الخمسينيات، أن يبادل ما يبيعه على بسطته من مواد غذائية بأخرى من الزبائن، ويشير إلى أن هناك رجالا وشبانا يقدمون إليه ولغيره من التجار البسطات، لمبادلة مواد غير غذائية مثل الصابون بالطعام، فيما يقوم هذا التجار الذي يقبل العملية ببيع الصابون أو مبادلته مع عوائل أخرى هي بحاجة إليه، ويضيف لـ “القدس العربي”: “كل إشي أصبح قابل للبدل”، ويضيف “المبادلة والمقايضة أصبح إشي أساسي في السوق بسبب ظروف الناس”، ويوضح أن نوعية المواد التي يجري مبادلتها ونوعيتها يكون مرتبطا بما يدخل قطاع غزة من مساعدات شحيحة، حيث يمكن أن يكون الدارج في أحد الأيام العدس، ليكون في اليوم التالي له الدقيق أو الأرز أو الزيت، فيما يحيد ثمن كل سلعة كميتها في السوق وحاجة السكان إليها.
ولا تخلو مواقع التواصل الاجتماعي من عمليات مبادلة الطعام، وهو أمر تلجأ له الأسر، في حال لم تكن السلعة التي تريد الحصول عليها متوفرة في محيط سكنها أو معارفها، ومن خلال منشور على “فيسبوك” وعلى مجموعات خاصة على تطبيق “وتسأب” بادلت غدير أم عمر، حليب الأطفال المتوفر لديها، والمخصص لسن أصغر من عمر طفلها، بآخر مخصص لفئته العمرية، من سيدة كانت تملك نوعا من هذا الحليب يفوق عمر طفلها.
وقد استقرت غدير على سيدة لا تبعد عن منطقة سكنها في وسط القطاع كثيرا، لإجراء عملية المبادلة، بعد أن وردت إليها طلبات قبول من نساء يقطن في مناطق بعيدة، تحول ظروف الحياة والمواصلات على الوصول إليهن.
وعلى الكثير من المجموعات الغزية على “فيسبوك” تجد طلبات مشابهة، فهناك رجال يعرضون مبادلة السكر بالدقيق وبالعكس، وآخرون يعرضون مبادلة الزيت بأمور أخرى، وكل منه له حاجة ملحة لما يطلبه.
الخبز مقابل العمل
ويقول مهدي جبر إن عدم توفر العملية النقدية وتلف الكثير منها وسوء الوضع الاقتصادي دفع السكان لذلك، فهذا الرجل قدم للحلاق الذي يقطن قرب منزله رغيفي خبز مقابل حلاقة شعر اثنين من أبنائه، ويقول إن الأمر لم يعد مخجلا.
وهناك سيدات أقمن مشاريع صغيرة في الحرب، منها طهي الطعام وتحضير الخبز على مواقد بدائية، يقمن بأخذ كمية من الخبز أو الدقيق من النساء اللواتي يحضرن المكان لصنع طعامهم على تلك المواقد، حيث ينتشر ذلك بشكل كبير في مناطق النزوح وأبرزها منطقة المواصي غربي مدينة خان يونس.
ويجد السكان في غزة أن هذا الأمر يقيهم مرارة الشراء بالنقود التي إما يرفضها التجار لاهترائها، أو يضطرون لسحبها من تجار العملة مقابل تحويلات بنكية تصل خصوماتها عند الاستلام لـ 50% من قيمة المبلغ، فيما يواجه السكان معضلة خطيرة جدا تتمثل في ارتقاع ثمن المواد التموينية بشكل جنوني.