الكاريكاتيرست ناصر الحوراني: مسكون بفلسطين وأتنفس الأردن شهيقاً وزفيراً

– تعرضت للاعتقال أكثر من مرة ويعلم زملائي ما عانيناه في سبيل الوطن وأبناء الحراثين
– عندما ضاقت الحلقات وتمت محاربتنا في لقمة العيش كان الخلاص بفتح نوافذ المنفى
– أحمل شهادة البكالوريوس في تخصص الفنون الجميلة من جامعة دالاس بولاية تكساس
– أؤمن بالأدوات البدائية وأنا ممن لا زالوا يستخدمون القلم والورقة في تنفيذ أفكارهم
– بعض الزملاء باعوا أنفسهم وأعمالهم وباتوا يغسلون “الفن” على غرار غسيل العملة
حوار – سعد الفاعور
مسكون هو بحب فلسطين، يتنفس الأردن شهيقاً وزفيراً، انحيازه للوطن ولأبناء الحراثين. تعمدت ريشته ببلاط الصحافة الأردنية، فدخلها داراً دارا، ونفث دخان سجائره فوق مناضد أقسام التحرير، ومارس الشغب الوطني المثقل بكراهية الجهل والفقر والعداء للفاسدين بأبهى صور الإبداع وتجليات الصدق في المواقف.
تعرض للاعتقال غير مرة، فأدرك أن لقمة العيش لم تعد في متناول اليد، فطرق باب الهجرة والمنفى، وقلبه لا زال معلقاً بجبال عمان السبعة، وبأسواق مخيم الوحدات. وما أن حطت رحاله في ولاية تكساس، حتى أكمل حلمه بإنهاء دراسته الجامعية، فنال البكالوريوس في تخصص الفنون الجميلة من جامعة دالاس، فصقل خبراته البدائية وعشقه للقلم والورقة في تنفيذ رسومه الساخرة والموجعة، بتعلم أسرار وتقنيات الكمبيوتر والفأرة وفلاتر الألوان وبرامج الرسوم وتحرير الصور، ومتحصناً بثقافة واسعة وخوض بتفاصيل المدارس الفنية بكافة مشاربها.
تنقله بين “أرض العزم” و”ديار العم سام”، لم يحيده عن خطه الوطني والقومي، فظل رافضاً لمقايضة أو بيع رسوماته في بورصة الكاز. مؤكداً انحيازه إلى محور المقاومة حتى لو مات قهراً وفقراً. موجهاً عتبه إلى بعض زملاء مهنته، ممن ارتضوا بيع أنفسهم وأعمالهم، قائلاً لهم: “إنكم تغسلون أعمالكم الفنية على غرار غسيل العملة”.
إنه “الكاريكاتيرست” ناصر الحوراني، صاحب البصمة والتوقيع الفني المميز “عبدالناصر” الذي يذيل كافة رسوماته التي تصفع بؤس الواقع بشراسة. ناصر أو عبدالناصر الحوراني، حلّ ضيفاً على “نيسان نيوز” متحدثاً عن النكبة واللجوء والنكسة والجوع والتضييق الأمني وعشق الوطن والتعلق به رغم المنفى والهجرة، وفيمايلي نص الحوار كاملاً:
* من هو ناصر الحوراني، ومن مواليد أي سنة هو، وكيف يقدم نفسه إلى القراء. ولماذا تعلق بفن الكاريكاتير؟
– عبدالناصر، إنسان مسكون بفلسطين، يتنفس الأردن في الشهيق والزفير، تجري دماء العروبة في كريات دمه الحمراء والبيضاء مسترشداً بالفكر المتمرد على واقع اختاره ليولد في بقعة من الأرض لاتبعد سوى قبلة عن “يافا” عروس الساحل الفلسطيني، التي تركها والده باتجاه قبلة العرب في الضفة الأخرى من الأرض المقدسة، حيث فتحت “عمان” ذراعيها لعائلة لاجئ يدعى أحمد الحوراني، لأكون ابنا ثالثا لها، ولأبصر النور في خيم اللجوء بمخيم الوحدات.
حضرت لهذا الكوكب في اليوم العشرين من شهر آب عام خمس وستون، قبيل عامين من نكسة العرب التي أعقبت نكبتنا الأولى، ومنذ ذلك التاريخ والنكبات تتوالى وتحفر عميقا في وعينا نحن جيل الستينيات من القرن المنصرم .
دخلت عالم الفن والصحافة الكاريكاتورية منذ بواكير العمر في أزقة المخيم، حيث كنت وأقراني نحاول أن نترجم أحلامنا بعالم أجمل من خلال خربشاتنا على جدران مدارس وكالة الغوث. فالفلسطيني مسكون بقضيته من خلال حبل سري يربطنا بقبلتنا الأولى وحلمنا الأول ومعشوقتنا الأولى.
* متى دلفت بلاط الصحافة الأردنية، وأين كانت أولى محطاتك المهنية، ومن أبرز الأسماء التي عملت معها؟
– دخلت عالم الصحافة مع بدء انطلاقة حمى الصحافة الأسبوعية بالساحة الأردنية، حيث عملت في جريدة “البلاد” الأسبوعية كرسام كاريكاتير غير متفرغ مع الأستاذ الكبير نايف الطوره، ومع المبدع محمد طمليه، وكانت “البلاد” في ذاك الوقت تنافس الجريدة الأسبوعية الأولى في الأردن “شيحان”. لم تدم علاقتي طويلا بالبلاد حيث تركتها للعمل في جريدة أسبوعيه أخرى تسمى “العالم العربي”، والتي كانت تصدر بشكل متقطع، وكنت أعمل فيها محرراً للديسك ورسام كاريكاتير، وقد صدر منها 5 أعداد فقط، ثم توقفت بعد ذلك. انتقلت منها للعمل كمحرر اجتماعي ورسام كاريكاتير في جريدة “حوادث الساعة” التي كان يرأس تحريرها الزميل الرائع جمال شواهين، ويدير تحريرها علي عرسان، وسكرتير التحرير فيها محمد المستريحي، وبقيت فيها إلى أن تم إيقافها. التحقت بعد ذلك للعمل في جريدة شيحان كمحرر اجتماعي ورسام كاريكاتير، وفي ذات الوقت كنت اعمل في جريدة البلاد مع كوكبة رائعة من الزملاء، وكنت أشارك في الرسوم الكاريكاتوريه في الجريدة الساخره “عبدربه” وكنت أنشر بعض الرسومات في مجلة “نداء الوطن”. ولن اطيل عليك فقد عملت كما كل أبناء جيلي في ذاك الوقت مع كل الصحف الأردنية، ابتداءاً من العرب اليوم وانتهاءاً بجريدة الساعة.
* لماذا اخترت الهجرة. وهل تشعر بالندم. أم أن المسوغات التي دفعتك للهجرة لا تزال قائمة. وهل حققت في الغربة ما لم يتح لك تحقيقه في الأردن؟
– لم اختر الهجرة يوما، لكنها أجهزة القمع وضيق ذات اليد في الوطن، وعدم ركوبي وبعضاً من الصحفيين على سكة هذا الجهاز أو ذاك. وكما تعلم صديقي فإن الوسط الصحفي في الأردن بشكل خاص والعربي بشكل عام يدار من خلال أجهزة ترصد كل حرف يخط في الصحيفة, وخلال عملي تعرضت للاعتقال أكثر من مرة، ويعلم زملائي ما كنا نعانيه في سبيل عشقنا للوطن وإخلاصنا لأبناء الحراثين، وعندما ضاقت الحلقات حول عنقي وتمت محاربتنا حتى في لقمة العيش، كان الخلاص والنجاة بفتح نوافذ المنفى وقلوبنا معلقة في الوطن الذي ماغاب يوما عنا.
* تملك ريشة ساحرة لها فيض مدهش من الدفق اللوني الذي لا يمكن تجاهله من قبل أي متذوق لفن الكاريكاتير، كيف امتلكت هذه المهارة. وهل هي موهبة مجردة، أم موهبة مصقولة بالمعرفة العلمية والأكاديمية؟
– هي الموهبة بالتأكيد، لكنني لم أركن للموهبة وحدها، فقد طورت من أدواتي الفنية بالدراسة الأكاديمية ومن خلال العمل الصحفي والرسم في الصحافة السياسية والاجتماعية وغيرها. فور وصولي للولايات المتحدة الأميركية التحقت بكلية الفنون الجميلة في جامعة دالاس بولاية تكساس، وحصلت على شهادة البكالوريوس فنون جميلة، وهكذا زاوجت بين الموهبة وبين المعرفة المبنية على العلم والنظريات الأكاديمية والمعرفة العلمية المتطورة. وما بين الموهبة والدراسة الأكاديمية المتخصصة، فهناك أيضاً المجال الصحفي الذي كان النافذة التي من خلالها أقدم رسوماتي للقراء والمتابعين. فن الكاريكاتير أشعر على الدوام وكأنه ولد معي، واعتبر نفسي حتى هذه اللحظة بأنني تلميذ تسحرني وتنتابني الدهشة أمام أي عمل إبداعي، وأقف فاغرا فمي أمام جمالية القبح في هذا الزمن العربي الرديء.
* كنت قد قطعت مشوار الغربة أو الاغتراب، وعددت للأردن وشاركت مع الراحل سامي الزبيدي في “عمان بوست”، لكنك عدت إلى أكناف الاغتراب مرة أخرى. هل تحدثنا عن ذلك؟
– في العام 2011 عدت إلى الأردن من أجل الاستقرار فيها، والتقيت بالزميل الشهيد سامي الزبيدي حيث عملت معه في تأسيس موقع “عمان بوست” الالكتروني، وقد جاءت انطلاقة موقعنا الإلكتروني مع موجة ما يسمى الربيع العربي. بقيت وسامي الزبيدي في “عمان بوست” إلى أن اختارت يد القدر انتشال الرفيق سامي وأسرته، الأمر الذي دفعني للهجرة مرة أخرى. وقد كفرت بحرية الرأي في عالمنا العربي الذي لازال يغط في القرن الرابع للهجرة.
* تمتاز رسوماتك بالمواكبة الدائمة للأحداث السياسية والمناسبات الإنسانية والاجتماعية من صيام وأعياد وهموم المواطن اليومية كالجوع والفقر وغيرها. كيف تستلهم أفكارك لإنتاج هذه الرسومات؟
– رسام الكاريكاتير مرآة لمجتمعه، وهو يسعى لكي يفرغ كل ما يختزنه من رؤى في عمل فني يكون قادراً على استفزاز المتلقي، وأحيانا صفعه. حملت موهبتي وأعلنت انحيازي لفقراء هذا الكوكب بغض النظر عن أي انتماء عرقي أو طائفي، فانا ابن الأردن، لا يمكن إلا أن أكون منحازاً لفقراء هذا الكوكب ومظلوميه، وأشعر بأن رسالتي كرسام كاريكاتير هي أقرب ما تكون إلى رسالة المؤذن في المسجد، يجب أن أعلن بأعلى صوتي بأن الوقت قد حان للثورة على كل ماهو سلبي على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي، وأن هذه الأمة لو جهنم صبت على رأسها فستظل واقفة. وهذا الموقف أسعى لإبرازه في رسوماتي كافة، سواء التي تنتصر للفقراء والمعدمين أو للمقاومين والرافضين لسياسات التطبيع ومد جسور المحبة مع الكيان الصهيوني تحت مسميات مختلفة.
* هل أنت رسام كاريكاتير كلاسيكي لا يزال يستخدم الأساليب البدائية والقديمة مثل قلم الرصاص والألوان والأوراق في الرسم أم أنك معاصر وتستخدم الفأرة ولوحة المفاتيح والكمبيوتر وبرامج الفوتوشوب؟
– لازلت رساماً كلاسيكياً تقليدياً، أؤمن بالأدوات البدائية وبتأثيرها في مداعبة المخيلة وخيوط اليد وبصمة الإصبع، فأنا من بين عدد قليل من الرسامين وفناني الكاريكاتير الذين لا زالوا يستخدمون القلم والورقة في تنفيذ أفكارهم ورؤاهم الفنية. لكن هذا لا يعني أنني أمي على صعيد الحداثة والتطور الفني. فأنا خريج جامعة دالاس، وأحمل شهادة البكالوريوس في تخصص الفنون الجميلة. لكنني أعشق المدرسة الكلاسيكية في التعبير عن أفكاري عند تنفيذ الرسوم والسكتشات الكرتونية.
* هل رسام الكاريكاتير مجرد مؤدي يرسم ما تطلبه منه الصحيفة، أم هو صاحب موقف سياسي يتمسك بحقه في التعبير عن قناعاته الخاصة وقضايا الأمة الكبرى؟
– للأسف الشديد، في الفترة الأخيرة، وكما هو الحال في الغالبية العظمى من المؤسسات الإعلامية، أصبح رأس المال هو المتحكم في الأجندة الإعلامية، ورأس المال هو من يحدد سقف الحرية في المؤسسة الإعلامية من صحف وإذاعات وفضائيات. في النهاية أقول إنه “لا كرامة لنبي في وطنه”، وأنا لم استطع الاستمرار في النشر بوطني لأن “أبنائي” وأعني “رسوماتي” ليست برسم البيع ولا تخضع لبورصات الكاز، فأنا منحاز الى محور المقاومة حتى لو مت قهراً وفقراً.
وللأسف الشديد أيضاً، بت أرى بأن بعضاً من زملائنا الرسامين الذين برزوا في هذا الفن، قد باعوا أنفسهم وأفكارهم، بل حتى مواقفهم وفنهم في سوق “الكاز”. الملاحظ الآن بكل أسف أن الرسالة الأخلاقية والوطنية وأمانة الموقف قد أصبحت مبادئ في طي النسيان. وأقول لهؤلاء المبدعين: “أنتم تغسلون الفن على غرار غسيل العمله!”