العبر من حديث السيدة اورسولا للإسرائيليين

بقلم: الدكتور إياد البرغوثي

كثيرون هم الزعماء الغربيون “وغير الغربيين” الذين أعربوا عن سعادتهم بمناسبة مرور خمسة وسبعين عاما على اقامة دولة اسرائيل على انقاض فلسطين. لكن تصريح رئيسة المفوضية الاوروبية حول ذلك الموضوع، كان الأكثر لفتا للنظر، بل وإثارة للاشمئزاز، من بين تلك التصريحات كلها.

ليس من السهل معرفة اسباب ذلك؛ فقد يكون راجعا لما جاء في التصريح نفسه، أو الى شخصية صاحبة التصريح، وهي المرأة الأولى التي تترأس المفوضية الاوروبية والتي عملت وزيرة للدفاع في المانيا قبل ذلك…. أو ربما لما “يتمتع” به إسمها “اورسولا فون دير لاين” من خاصية تقع في منتصف المسافة بين الصعوبة و”الفخامة”. للقاريء أن يحاول ترديد الإسم مرتين أو ثلاثة، وسيدرك صحة ما أقول.

قالت السيدة اورسولا… ان خمسة وسبعين عاما قد مرت على “تحقيق الحلم” بعد “التراجيديا الأكبر في تاريخ البشرية” حيث اخيرا “بنى الشعب اليهودي دولته”. وأضافت أن اسرائيل هي “الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط”، وهي التي جعلت “الصحراء تزدهر”. واختتمت تغريدتها بالقول أنه “بين اسرائيل والاتحاد الأوروبي خمسة وسبعين عاما من الصداقة”، وأنهما، أي اسرائيل والاتحاد الأوروبي، “ولدا ليكونا صديقين وحليفين”، وأنهما يشتركان في “الثقافة والقيم والمواطنين الذين يحملون جنسية كليهما”… وأبلغت الاسرائيليين بالوقوف المطلق للإتحاد الأوروبي مع إسرائيل عندما اختتمت مخاطبتها لهم بالقول “حريتكم.. حريتنا”.

رغم أن السيدة اورسولا تشغل منصبا سياسيا هو الارفع في الإدارة الاوروبية، إلا أن تصريحها هذا كان أقرب الى الشعر والغرام، منه الى تصريح في السياسة. ربما لا بأس في ذلك، فالسيدة اورسولا كانت قبل رئاسة المفوضية الاوروبية وترؤسها وزارة الدفاع الألمانية وزيرة “للأسرة”، حيث نجحت في ذلك المنصب ايما نجاح، اذ استطاعت إنجاب سبعة ابناء خلال اثني عشر عاما فقط.

عودة الى تصريحها، تحدثت “الرئيسة” الاوروبية عن تحقيق “الحلم”، وهو الحلم المشترك لأوروبا الامبريالية والحركة الصهيونية في انشاء اسرائيل. لكنها لم تقل ان تحقيق هذا الحلم، جاء ليس فقط على حساب تبديد حلم لشعب بأكمله هو الشعب الفلسطيني، ليس فقط في اقامة دولته المستقلة، لكن حلمه في مجرد أن يعيش على أرضه مثل بقية خلق الله.

يبدو أن السيدة اورسولا لا ترى في الأمر إلا وجها واحدا. أو، ما دمنا نتحدث عن اللغة الشعرية لتصريحها، لا تقرأ من بيت الشعر الا “صدره”، مع أن الجوهر يوجد في “العجز” على الأغلب. لذلك هي لم تنظر إلى ما جرى في فلسطين خلال المئة عام الماضية، إلا من الزاوية الصهيونية والاوروبية الامبريالية.

وضمن ذلك المنهج الذي لا ترى فيه السيدة اورسولا إلا جانبا واحدا من الموضوع، قالت ان تحقيق “الحلم” الصهيوني جاء بعد “التراجيديا الأكبر في تاريخ البشرية”. تحدثت عن التراجيديا “الأكبر” التي حلت باليهود في المانيا، لكنها لم تتحدث عن الفاعل الذي اقترف تلك الجريمة وتسبب في تلك التراجيديا. السيدة اورسولا غيبت الفاعل، ولم تذكر أن أوروبا استحضرت نائبا له، نائب فاعل، الذي هو الشعب الفلسطيني في هذه الحالة، ليتحمل وزر ما اقترفه الفاعل الحقيقي… رحم الله اجداد السيدة اورسولا واجدادنا جميعا، فالرحمة تجوز على الفاعل ونائبه.

لم تنس السيدة اورسولا تكرار “المعزوفة” التي يرددها معظم ساسة الغرب، وهي أن اسرائيل “الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط”، رغم كل ما تقترفه في فلسطين وفي “اكناف” فلسطين. وباضافتها “الشعرية” أن اسرائيل جعلت الصحراء “تزدهر”، نسيت أن تذكر أن اسرائيل دمرت ما يزيد عن خمسمئة قرية ومدينة في فلسطين، وأنها دمرت البيئة والبشر من خلال مشاريعها الاستيطانية، وأنها ما زالت تهدم القرى التي يعيش فيها “مواطنوها” البدو في النقب الصحراوي وغير النقب حتى أيامنا هذه.

في ختام كلمتها أكدت السيدة اورسولا المؤكد، وهو أن أوروبا وإسرائيل ولدتا لتكونا صديقتين وحليفتين، وأنهما تشتركان في الثقافة والقيم والمواطنين حاملي الجنسيات المزدوجة الاسرائيلية والاوروبية. جيد وصادق هذا التأكيد… فربما كان ذلك مفيدا لاولئك السياسيين أو المثقفين عندنا الذين ما زالوا يراهنون على إمكانية الفصل بين أوروبا الامبريالية وإسرائيل، وما زالوا يشكون في أن اسرائيل والحركة الصهيونية هي وليدة النظام الامبريالي الأوروبي- الأمريكي.

ثم طمأنت السيدة المحترمة الاسرائيليين بتأكيدها على المصير المشترك لإسرائيل وأوروبا، وذلك عندما خاطبتهم – اي الاسرائيليين – قائلة “حريتكم حريتنا”. هي في هذا محقة، فكلا الغرب الامبريالي وإسرائيل هما اساس النظام العالمي الذي يعتاش على الحروب وابادة الشعوب وافقارها.

السيدة اورسولا “المغرومة” باسرائيل، والمدركة لأهمية وواقع الترابط الأوروبي والغربي عموما باسرائيل، لا تشكل حالة شاذة بين السياسيين، وكثير من النخب في الغرب، في مشهد جعله شدة “الغرام” خاليا من أية دبلوماسية أو “تلطيف”.

هذا لا ينفي بالطبع وجود غربيين انسانيين متضامنين مع قضايا الشعوب المستضعفة في العالم، ومناهضين لسياسات بلدانهم، فحديثنا هنا يتعلق باؤلئك المتساوقين مع السياسات الرسمية.

عندما نتحدث عن الانحطاط الاخلاقي في الغرب الامبريالي، فإن ذلك لا يعني أننا نرى في الشرق حالة اخلاقية “وردية”. فتلك “الحالة” الموجودة لدى السياسيين الغربيين، أو كثير منهم، يوجد شبيه لها بشكل او بآخر لدى كثير من سياسيي الشرق أيضا.

ان نظرة بسيطة للجانب الاخلاقي في تصريحات السيدة اورسولا، كنموذج “فاقع” للأخلاق السياسية في الغرب، مقارنة مع ما يجري في الشرق، تظهر الفرق الكبير بين الحالتين من حيث ارتباط الحالة الاخلاقية في الغرب بعنصرية تجاه الآخر، خاصة تجاه شعوب الشرق التي تتميز بكونها بعيدة عن العنصرية، بل إنها تبالغ احيانا في احترام الآخر على حساب الموقف من الذات.

ان الانحطاط الاخلاقي لدى السياسي الغربي، هو انحطاط الواعي والناضج والمدرك لما يفعل، والمنسجم مع استراتيجيته المتمثلة عادة في الهيمنة على الشعوب المستضعفة. بينما يكون ذلك غالبا لدى الشرقي انحطاط الجاهل و”الارعن” والمراهق، والخارج عن أي سياق.

كلمة أخيرة للسياسيين الاوروبيين الذين هم على شاكلة السيدة اورسولا. ان الحالة المرضية التي سببتها أفعال الأجداد لا تعالج بالامعان في السير على نفس النهج. ان تغيير الضحية لا يشكل وصفة جيدة للتخلص من العقد النفسية…وكلمة ربما بعد الأخيرة.. في حالة السيدة اورسولا.. ما يمكن كتابته هو أقل بكثير مما يمكن قوله.

زر الذهاب إلى الأعلى