الضابط الفدائي والمزارع الهادئ.. هكذا خاضا معركتهما مع قوات الاحتلال في “الجلمة”

مساء أمس الثلاثاء، اصطحب أحمد عابد ابن عمه الصغير غيث، ابن 1.5 عام، ليشتري له بعض الحلوى من بقالة قريبة، قبل أن يغادر الشاب مع صديقه قريتهما القريبة من جنين، شمالي الضفة الغربية، لآخر مرة.

في الصباح، استيقظ الفلسطينيون على أخبار عملية اقتحام معسكر وحاجز “الجلمة” قرب مدينة جنين، قبل أن يتصل جنود الاحتلال بعائلة عابد في القرية القريبة من الحاجز، ويبلغوها أن اثنين من أبنائها هما عبد الرحمن هاني عابد (24 عاما) وأحمد أيمن عابد (23 عاما) قُتلا في اشتباك مسلح.

فشل عسكري ونقلة نوعية

بدأ الحدث قرابة الثانية والنصف من فجر الأربعاء عند حاجز الجلمة العسكري الإسرائيلي شمال مدينة جنين، بعد اشتباه جنود الاحتلال بفلسطينيين تقدما صوب الحاجز، ثم باشرا بإطلاق النار والاشتباك مع الوحدة العسكرية المناوبة في المكان، مما أسفر عن استشهادهما ومقتل ضابط اسرائيلي بمنصب “نائب قائد دورية في لواء ناحال” العسكري.

وحسب الروايات المنقولة عن مصادر عسكرية إسرائيلية، فإن الشابين تخفيا بين الأشجار القريبة لساعتين على الأقل قبل أن يقررا التقدم نحو الحاجز العسكري وبدء الاشتباك.

وتحدثت المواقع الإسرائيلية عن “خلل أمني وفشل عسكري ذريع” رافق العملية، كان سببه أن الجنود اشتبهوا بشخصين يقتربان من الحاجز قبيل الساعة 12 ليلا، ويختفيان لساعتين ثم يعودان لتنفيذ عمليتهما، فضلا عن رفض قائد الوحدة العسكرية عند الحاجز طلب أحد الجنود بإطلاق النار على المشتبهين لاعتقاده أن لا شيء بالمكان.

وبتقديره، اعتبر المختص بالشأن الإسرائيلي، محمد أبو علان، اشتباك حاجز الجلمة “نقلة نوعية” في موجة العمليات الأخيرة لأن “المقاوميْن” لم ينتظرا اقتحام قوات الاحتلال مناطق جنين -كما يحدث بشكل شبه يومي- للرد عليها “بل بادرا واشتبكا مع الجيش في نقطته العسكرية بحاجز الجلمة الذي يُعرف بأنه بوابة الاقتحام لجنين ومخيمها”.

يقول أبو علان، في منشورات على صفحته بفيسبوك، إن عملية الجلمة وعملية الأغوار قبل أسبوع، وقعتا في مناطق تشهد استنفارا عسكريا عاليا ودائما. كما أن عنصر المبادرة حاضر في العمليتين، فـ “ليست عمليات إطلاق نار ردا على اقتحام مدينة أو ضد عملية اعتقال، بل سار المنفذون عشرات الكيلومترات لتنفيذها”.

في العمليتين -كما يفيد المختص بالشأن الإسرائيلي- اختار المنفذون توقيت الاشتباك، والهدف جنود في جيش الاحتلال الإسرائيلي مضيفا “الطائرات المسيرة المسلحة (تستخدمها القوات الإسرائيلية حديثا في اقتحاماتها) لم تحمِ الاحتلال وجنوده من رصاص المقاومين”.

 صورة صعبة بعد اتصال الصباح

ولم يكن الاشتباك الأخير هو ما جمع الشابين، ولا قرابتهما في العائلة نفسها، بل صداقة جمعتهما منذ الصغر، ثم واقع عام مزدحم بالهجمات الإسرائيلية، والذي تأثرا فيه ودفعهما لتنفيذ عمل فدائي مسلح دون أن يشعر بهما أحد أو يعرف عن نواياهما ولو همسًا.

في ديوان العزاء بقرية كفر دان، حيث تستقبل عائلة عابد المؤازرين لها بعد استشهاد نجليها، تحدث مراد عابد عم الشهيد أحمد وخال الشهيد عبد الرحمن، في الوقت نفسه، عن علاقة الشهيدين القوية وعن المحبة التي كانت تجمعهما منذ الصغر وحتى آخر لحظاتهما معا.

وشاهد الخال ابن شقيقته أحمد قبل منتصف الليل الماضية في سهرة عائلية، وقال للجزيرة نت “اصطحب طفلي الصغير غيث إلى البقالة واشترى له الحلوى، وكان يلاعبه، ولم نشعر بأي غرابة في سلوكه أو حديثه..” أما عبد الرحمن، فالتقى به لآخر مرة قبل يومين.

وحسب العم، فقد أدركت العائلة غياب أحمد عن البيت وعدم عودته بعد ساعات، وحاولوا الاتصال به مرات عدة دون جدوى، فتوقعوا أنه انشغل بعمل أو بقضاء حاجة له.

في الخامسة والنصف فجرا، استيقظت عائلة عابد على اتصال هاتفي من ضابط في مخابرات الاحتلال يستدعي فيه والد الشهيد عبد الرحمن إلى حاجز الجلمة للتحقق من صورة الشهيدين.

يقول مراد عابد إنه ذهب وشقيقته (والدة الشهيد عبد الرحمن) وزوجها، ولكن الاحتلال لم يسمح إلا لوالده برؤية صور الجثمانين والتعرف عليهما بعد تفتيشه بشكل مهين واحتجازه والتحقيق معه. وقال إنهما “كانا بوضعية صعبة”.

العسكري والمزارع

أنهى الشهيد أحمد عابد ثانويته العامة قبل أعوام بمعدل جيد جدا، والتحق بجامعة الاستقلال العسكرية في مدينة أريحا ولم يمضِ على تخرجه منها إلا القليل، حيث التحق بجهاز الاستخبارات العسكرية في مدينة قلقيلية.

وما أن شاع خبر استشهاده، حتى تداول الناشطون صورته مرتديا بزته العسكرية معتمرا قبعته وهو يطلق ابتسامته العريضة، وأطلق البعض عليه لقب “الضابط الفدائي”.

وعن أحمد، كتب الناشط جاد قدومي على صفحته بفيسبوك “الفرق بين الاجتماع الأمني والاشتباك الأمني.. رفعة الرأس والنتيجة والهيبة والبوصلة والوطني والشهداء والنصر في الموقعة”. ثم يضيف “وضابطنا قتل ضابطهم”.

أما الصحفي رغيد طبسية فخط على جداره الأزرق يقول “منذ أيام تجري تحركات لنزع فتيل المقاومة بالضفة الغربية، رد جنين البليغ أردى ضباط الاحتلال بين قتيل وجريح والبدلة العسكرية حكاية أخرى”.

ولم يُعرف عن أحمد عابد، كما يقول عمّه، سوى طيب خلقه وعلاقته القوية بأهالي قريته وإقدامه على تقديم المساعدة لهم ومشاركته أفراحهم وأتراحهم. كما “كان شغوفا بكرة القدم ومحترفا لها”.

أما الشهيد عبد الرحمن، الشاب الهادئ، فتقارب بالصفات ذاتها مع ابن خاله أحمد، لكنه اختار العمل في الزراعة منذ صغره، ثم تنقل كأي شاب بمقتبل العمر للعمل في ورش البناء وغيرها ساعيا وراء رزقه.

ورغم أن الشهيدين لم يظهرا ما يوحي باستعدادهما لأي عمل فدائي، فإن استشهاد قريبهما “وصديق أحمد والمقرب منه جدا” شوكت عابد في أبريل/نيسان الماضي أثَّر به كثيرا، فضلا عن مشهد وواقع مأساوي يعيشه الفلسطينيون يوميا من قتل وهدم وتهجير “وكل ذلك ترك أثره على الشهيدين” كما يقول قريبهما مراد عابد.

ثم جاء استشهاد ابن قريتهما شأس كممجي، قبل شهور، وهو شقيق الأسير أيهم أحد أسرى “نفق الحرية” الستة، وقتل الاحتلال له بدم بارد، ليراكم الأثر عليهما.

زر الذهاب إلى الأعلى