الربيع العربي في ميزان “تحرير الشرق”‏

بقلم: الدكتور إياد البرغوثي*

تتلخص فكرة مشروع تحرير الشرق كما ورد في كتابنا “تحرير الشرق… نحو إمبراطورية شرقية ثقافية” ‏في أن “المصالح الاستراتيجية العليا لشعوب الشرق واحدة، يقررها اساسا ثبات الجيواستراتيجيا التي لا ‏فكاك منها، وتقترح مشروعا ثقافيا يشمل شعوب الشرق، ويهدف الى خلق حالة من الوعي الاستراتيجي ‏بهذه المصالح وطرق تحقيقها، حالة تعيد توطين فكرة الوحدة، وتصنع الهوية “الواعية” الجامعة لكل ‏مكونات شعوب المنطقة”.‏
ينطلق المشروع من أن الحالة الاستعمارية الغربية التي خضعت لها شعوب الشرق بقيت على شكل نظام ‏للهيمنة له ادواته السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية. نظام الهيمنة هذا بدا اكثر وضوحا بعد الحرب ‏في اوكرانيا، حيث تستخدم امريكا والغرب كل تلك الادوات وصولا الى التهديد بالحرب النووية من أجل ‏الابقاء على نظام “القطب الواحد” المتحكم بشكل او بآخر بالبشرية وفي مقدمتها شعوب منطقتنا.‏
كما تؤمن الفكرة، أن تحرر شعوب الشرق الحقيقي من نظام الهيمنة هذا لا يتم الا بشكل جماعي، فالحديث ‏عن تطور “مستقل” لأية دولة بمفردها في المنطقة ليس الا شكلا من تغييب الواقع، الذي لا يؤدي الا الى ‏الامعان في التبعية للغرب الامبريالي. هذا يؤكد ضرورة وعي هذه الشعوب بأهمية تقاربها وتكاملها ووحدة ‏مصيرها.‏
ومن أجل أن تكتمل صورة الموقف من “الربيع” العربي في علاقته بمشروع الشرق، لا بد من تبيان موقف ‏هذا المشروع من مسألتين في غاية الأهمية… وهما الدولة والقضية الفلسطينية، فالدولة الحديثة في منطقتنا ‏نشأت أو انشئت في ظروف ملتبسة وضعتها في مواجهة “الأمة” ودفعتها لكي تكون جزءا من ادوات ‏الهيمنة الغربية على المنطقة. فالدولة في منطقتنا اجمالا لم تكن عقدا اجتماعيا بين الحكام والشعوب بقدر ‏ما كانت عقدا “أمنيا” بين الحكام والمستعمرين “السابقين”.‏
وهي بحكم عوامل معقدة ابرزها الصراع بين الهوية التاريخية الجامعة والهوية الفرعية الطارئة في وضع ‏غير ثابت، تذهب بها تلك العوامل احيانا الى الانقسام والتشظي واحيانا أخرى الى التقارب والتكامل مع ‏محيطها. فالدولة بشكلها الحالي هي حالة متقدمة على دويلات محتملة لكنها حالة ليست كذلك في حالة انفتاح ‏الأفق نحو الهوية الأكبر.‏
أما فلسطين، فهي للشرق عماد مشروعه وجوهر هويته وعنوان تحرره. انها ولاسباب جيواستراتيجية ‏قضيته المركزية دون انتقاص من اهمية كل القضايا الأخرى في المنطقة. ان هذا يعني أن الموقف من ‏قضية فلسطين يقرر الموقف من تحرر الشرق، ومن يقبل ببقاء فلسطين محتلة إنما يلغي أية امكانية ‏لاستقلال حقيقي للشرق ويقبل به مفتتا وتابعا ومهيمنا عليه.‏
أما في ما يتعلق بالغرب، فمشروع الشرق ينطلق من أن المشروع الامبريالي الغربي للهيمنة على الشرق، ‏وربما على بقية العالم و إن بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، لم ينته بعد. لذلك فإن مرور أحداث عاصفة ‏بالشرق كتلك التي احدثها الربيع العربي، بغض النظر إن كان للغرب مساهمة ما في انطلاقتها أم لم يكن، ‏الا أنه من المستحيل أن لا يحاول الغرب التدخل في هذه الأحداث، ومحاولة استثمارها وتوجيهها لصالحه. ‏هذا ليس فقط ما يقوله منطق الأشياء ولكن تصريحات قادة وسياسيين غربيين، وأقوال غونداليزا رايس ‏حول موضوع الفوضى الخلاقة، وطبيعة ما جرى من أحداث، وما وصلت اليه الأمور في بلدان الربيع، هي ‏دليل شديد الوضوح على ذلك.‏
منطلقات الربيع العربي ‏
تتحدث الكثير من الادبيات عن الانطلاقة “العفوية” للربيع العربي، لكن واقع الحال يشير الى أن الشعوب ‏العربية قد صبرت كثيرا قبل أن تقوم برد فعلها على الأوضاع التي كانت تعيشها، سياسية كانت أو ‏اقتصادية وحتى ثقافية ونفسية.‏
اقتصاديا عانت فئات كثيرة في البلدان العربية من أوضاع مزرية. فهناك الفقر الذي يطال شرائح كبيرة من ‏المجتمعات العربية، وهناك اعداد هائلة من العاطلين عن العمل خاصة من الشباب وخريجي الجامعات، ‏اضافة الى سوء توزيع الثروة الذي عمق الفوارق الطبقية بين الناس.‏
سياسيا استمر فقدان الثقة بين الانظمة وشعوبها. بل ان الأنظمة تكاد لا تشعر بأية قيمة أو وجود لتلك ‏الشعوب. بقي بقاء الأنظمة في معظم دول المنطقة “عقدا” بين الحاكم والقوى الغربية وليس عقدا مع ‏شعوبها، فاستمر الاستبداد باستثناء ما ندر من خطوات شكلانية نحو الديمقراطية تمثلت عادة في إجراء ‏انتخابات أكثر شكلانية، وبدت تلك الانتخابات وكأنها استجابة لارادة غربية أكثر منها استجابة للشعب، مما ‏عمق الأزمة وزاد من المهانة الفردية والجماعية.‏
لقد شعرت فئات كبيرة من الطبقة الوسطى في البلدان العربية باهانة مزدوجة ليس فقط من الطريقة التي ‏تعاملت بها الأنظمة مع شعوبها، بل ايضا من الطريقة التي تعامل بها الغرب مع حكامها، اضافة الى موقف ‏الغرب العنصري من قضايا الأمة ومن احتقار لقيمها. بالعادة كانت الشعوب تصبر على “اهانتها” عندما ‏يكون ذلك وكأنه “بحجة” الدفاع عن القضايا الوطنية، لكن ذلك لن يدوم طويلا في ظل التخلي الواضح عن ‏تلك القضايا.‏
ومما عمق الأزمة السياسية في المنطقة أن المعارضة عانت من الضعف الشديد، فتم تدجينها فبدت جزءا من ‏النظام أو مدافعا عنه. عمليا لم يبق من المعارضة فاعلا الا أحزاب الإسلام السياسي التي تصارعت على ‏الحكم مع العسكر، أو اتفقت معهم في بعض الأحيان.‏
اجتمعت حاجة الفقراء “للخبز”، وحاجة بعض المثقفين للحرية وبعضهم الآخر للحرية والكرامة الوطنية، ‏ورغبة المعارضة المنظمة شبه الوحيدة “الاخوان المسلمون” في الحكم، فكان الربيع العربي.‏
ملابسات الربيع العربي ‏
ابتدأ الربيع في تونس كما هو معروف. كان تضامن الشعوب العربية مع المنتفضين التونسيين عارما. لفت ‏الإنتباه سرعة تأثر المحيط العربي بما يجري، وسرعة استجابة ذلك المحيط. هذا يثير تساؤلا كبيرا حول ‏قدرة عشرات السنين من الفرقة بين الأنظمة العربية في إحداث انفصال فعلي بين الشعوب. من هنا تبدو ‏الدعوة لتقارب شعوب المنطقة وتكاتفها أقل “طوباوية” مما يعتقد.‏
كان الحدث أشبه بانفجار اجتماعي وقع دون ترتيب، بلا قيادة، وبلا موجه، على الأقل في البدايات. كان ‏الشعار الأول والاساس “إسقاط النظام”. لم تفكر الجماهير المنتفضه كثيرا في ما سيلي إسقاط النظام. إسقاط ‏الأنظمة كان كافيا لها لتكون راضية.‏
غياب النخب القائدة عن الحراك الشعبي اتاح الفرصة للقوى الخارجية، الإقليمية والدولية للتدخل، سواء ‏بشكل مادي عسكري أو امني، أو من خلال القوى الناعمة خاصة الاعلام. هنا اختلط الأمر، فالشعارات ‏الأولى للحراك طالبت بالخبز والحرية والكرامة، ورفعت أعلام فلسطين، ثم ذهبت بإتجاه الطائفية وتحميل ‏فلسطين وتأييدها المسؤولية عن الأوضاع.‏
منطلقات جماهيرية ثورية توحد الجميع، ثم حركة استدارة بإتجاه الانقسام والطائفية والفوضى (الخلاقة أو ‏غيرها)… اثنان في واحد، ثورة وفوضى، ثم فوضى وثورة. خفت صوت الثوار السلميين وبرز صوت ‏السلاح والقتل الطائفي. اختفى صوت المثقفين العقلانيين الديمقراطيين الحقيقيين الحريصين على مصير ‏شعوبهم وبرز صوت المثقفين “المعولمين” المستدعين للطائفية والانقسام والتدخل الخارجي. وتبلور ‏الصراع الذي بدأ بين الجماهير ومضطهديها ليكون بين القوتين الأكثر بروزا في معظم دول المنطقة، ‏الإخوان المسلمون والعسكر، وكل منهما بالطبع له حلفاؤه وداعميه والمستفيدين من دعمه اقليميا ودوليا، ‏وإضافة الى هؤلاء وجد المستفيد من استمرار الصراع، وهو الذي يهمه في النهاية تدمير الدول وتدمير ‏المجتمعات من الأساس.‏
الربيع بميزان الشرق ‏
ايجابا، استعادت الجماهير في المنطقة جزءا من ارادتها، واعادت ثقتها بنفسها، واثبتت قدرتها على ‏التحرك. واستعادت تلك الجماهير، ولو مؤقتا، جزءا كبيرا من حريتها في بعض البلدان (تونس مثلا)، ‏وخطت ولو بتحفظ وبكثير من القلق خطوات باتجاه بعض مظاهر الديمقراطية (تونس ومصر). تحقق ذلك ‏في الفترات الأولى من الحراك، لكن الأمر سرعان ما أخذ في التغير.‏
تطور الأحداث قاد الى وضع اقتصادي اكثر سوءا، والى ضحايا باعداد فاقت التصور، ولاجئين بالملايين، ‏و إحداث شروخ في بنية المجتمعات، وبقاء للأنظمة رغم تغيير رؤوسها في بعض البلدان.‏
على مستوى الدولة، وبعكس ما يطمح مشروع الشرق لدفعها نحو مزيد من الاستقلال وللاقتراب من ‏مشروع الدولة الأمة، بتقارب شعوبها وتعميق وعيها الوحدوي، تراجعت الى الانقسام، وساد الفكر التقسيمي ‏الطائفي والجهوي، وذهبت الى مزيد من التبعية للغرب، وذهب بعضها للالتحاق بالمشروع الصهيوني من ‏خلال التطبيع.‏
بدل أن يذهب الربيع بدول وشعوب المنطقة الى التحرر من الاستعمار، وصلت الى التحلل من الالتزام ‏بمواجهته. وبدل أن يستمر تنامي دور الجماهير انتكس ذلك الدور من خلال العسكرة وتحول الحراك الى ‏حروب بالوكالة لتصبح الشعوب اكثر قابلية للعبث بها وبمصيرها.‏
في سياق تطور الأحداث ضاع منطق الثورة. اختفى المثقفون الثوريون الوطنيون، وذهبت الأمور باتجاه ‏اصولية ظلامية تمثلت بداعش ومثيلاتها وعولمة ليست قضايا الأمة الكبرى جزءا من اجندتها، إن لم يكن ‏التخلي عن تلك القضايا جوهر تلك الأجندة.‏
ورغم بروز القضية الفلسطينية كشعار اساسي في بدايات الربيع، وقلق اسرائيل الكبير في تلك البدايات، إلا ‏أن التطبيع الذي جرى بعد ذلك بين بعض الدول العربية وبين اسرائيل، مثل تتويجا لرضوخ تلك الأنظمة ‏للإرادة الغربية (السودان مثلا).‏
انطلق التطبيع من أن المشكلة مع إسرائيل وهمية بالأساس، واذا كان هناك من مشكلة فهي من “اختراع” ‏الفلسطينيين، حيث الضحية مسؤولة عن وجود قاتلها. وأصبح الحل في أن ترى كل دولة مصلحتها وتذهب ‏باتجاهها، ويبدو أن الذهاب باتجاه اسرائيل هو “الاجدى” وهو “الأسهل” وهو في النهاية “قرار سيادي”.‏
الشرق بحاجة إلى “ربيع” حقيقي، ربيع يخرج الشعوب من حالة الاستعباد ويضعها على سكة التحرر ‏والوحدة والتطور المستقل، وليس ربيعا يفكك دولها، ويلحقها بمشاريع اعدائها.‏

‏*أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

زر الذهاب إلى الأعلى