التوليدية من جديد في جرس المعدان

بقلم: زياد جيوسي
مرة أخرى يعود الفنان د. بشير أحمد لأسلوبه المتفرد في التعبيرمن خلال لوحاته التي تعتمد فن الحفر والطباعة “جرافيك آرتس”، فقد سبق أن شاهدت أعماله المعنونة “الحراك المصمت” والتي استندت على أسطورة بابلية قديمة، ونالت جائزة الفنان رافع الناصري في تلك الأعمال، استلهم الفنان الصمت الكائن في الأسطورة، محولا اياه إلى متواليات حركية تتنبض بثورة كامنة تنبع من عمق ذلك السكون، واليوم يقدم لنا د. بشير فكرة توليدية جديدة ضمن اطار الفن التوليدي “Generative Art” مسندا إلى النظرية التوليدية، فهو فنان ولد وفي داخله موهبة فطرية، صقلها بالممارسة والدراسة حتى نال درجة الدكتوراة في الفنون.
ينتمي هذا الفن إلى تيارات الفن المعاصر التي تستفيد من التطور “التكنولجي” والخوارزميات لإنتاج أعمال فنية مبتكرة ومتنوعة، ومع ذلك يبقى خيال الفنان وثقافته الأساس في توليد هذه الأعمال، العمل الجديد الذي يحمل عنوان: “جرس المعدان” يقوم على أربعة محاور هي: الأسطورة، ما ورد في الأديان، الواقع المعاش، والتخوف من مستقبل كارثي يهدد الإنسانية، ومن خلال هذا المشروع يقدم لنا الفنان بعدا بصريا جديدا في فن “الجرافيك”، مستعينا بالرمزية والتغيرات الزمنية مع إرتباط وثيق بالمكان والتراث.
يتكون المشروع من سبع لوحات، وهو عدد رمزي يتكرر في الأساطير والأديان والتراث الإنساني، ففي الأساطير يرمز رقم سبعة إلى آلهة الحرب اليونانية والرومانية، ويظهر في الأسطورة الايرلندية حيث للبطل “كوخلين” سبعة أصابع في كل من يديه وقدميه، ونجد هذا الرقم أيضا في الهندوسية والطاوية، والحضارات المصرية وحضارات ما بين الرافدين، وفي التراث الانساني والحياة اليومية: سبعة أيام في الأسبوع، سبعة بحار، سبعة ألوان في قوس قزح، سبعة ألوان في الطيف اللوني، عجائب الدنيا السبع، وغيرها.
وفي الأديان السماوية يتكرر الرقم سبعة بشكل لافت: ففي المسيحية واليهودية له دلالات متعددة، وفي الإسلام نجده في السموات السبع، والأراضين السبع، والطواف سبع والسعي كذلك ، وقد ورد في القرآن الكريم 24 مرة مرتبطا بخلق السماوات، وعدد أبواب الجنة، وغيرها.
الصفات، حظي باهتمام كبير من المجتمعات التي تعتمد على تربيته، لما يوفّره من موارد غذائية وفيرة كالحليب ومشتقاته، واللحوم، إضافة إلى استخدام جلودها في الصناعات المختلفة.
والمعدان، كرمز آخر، هم عرب من عشائر مختلفة، ومناطق إقامتهم في العراق هي الأهوار القريبة من المياه، حيث تقوم حياتهم البسيطة على تربية الحيوانات، وبخاصة الجاموس، وصيد الأسماك. وهناك من ينسبهم إلى أهل العراق القدماء في حضارات سومر وبابل وأكد. فكان المعدان، ببساطتهم وطبيعة معيشتهم القائمة على تربية الجواميس، نموذجًا إنسانيًا لفكرة المشروع التوليدي. فهؤلاء، حين يُحاربون في لقمة عيشهم ويُبعدون عن أعمالهم، يصبحون تحت سيطرة الرأسمال العالمي، وهو ما يمكن إسقاطه على شعوب أخرى لا تملك أدوات المواجهة ضد هذا الطغيان، فتعود إلى نظام الرق والعبودية من خلال سيطرة الدول الكبرى وإفقار الشعوب، حيث يصبح العالم موزعًا بين أسياد رأسماليين وشعوب مستعبدة.
أما ورق العنب، فيرمز إلى الوفرة والحماية، إذ يحمي قطوف العنب حتى تنضج. ويجدر الانتباه إلى أن الحديث عن العنب ورد أحد عشر مرة في القرآن الكريم، عند وصف فواكه الفردوس وجنان الآخرة، إلى جانب رمزيته المتكررة في الحضارات القديمة.
وعند الحديث عن الأسلوب الذي استخدمه الفنان، نلحظ تفاعلًا كبيرًا بين خياله وثقافته من جهة، وبين المادة المستخدمة في الإبداع من جهة أخرى، مما مهد الطريق أمام المتلقي وذائقته البصرية لاكتشاف فني جديد أتاحته التوليدية في الفن، سواء في الفن التشكيلي أو فن “الجرافيك”. وقد أسهم ذلك في انتقال هذا الفن من إطار مهني صرف إلى فضاء فني حر ومعترف به، حيث أضافت التوليدية بعدًا جديدًا في ما يقدمه الفنان من أعمال وتصاميم بصرية، تجعل المشاهد أكثر تفاعلًا مع العمل الفني. ولذا، لجأ عدد كبير من الفنانين في العالم إلى التوليدية لتوليد أعمال خارجة عن المألوف، مستفيدين من التطور الهائل في العلوم والتكنولوجيا.
وعند تأمل اللوحات السبع لهذا المشروع التوليدي، نجد توالي الفكرة بينها. فقد رُسمت الجواميس باللونين الأسود والفاتح، في رمزية تشير إلى أن الجميع سيعاني من الرأسمالية بغض النظر عن اللون أو الجنس. وتظهر هذه الجواميس واقفة على جانبي جلود مكوّمة، تمثل من ماتوا بالفيروسات المُسرّبة بيولوجيًا، فالعالم الرأسمالي لا يعنيه الضحايا، بل تعنيه الأرباح. وهنا، تصبح الجلود مادة خام تُعاد معالجتها في شركات عالمية، وتُباع بأسعار مرتفعة، لا سيما تلك التي تحمل علامات تجارية شهيرة.
كما نلاحظ في لوحات أخرى تناقصًا في عدد الجواميس نتيجة الحرب البيولوجية عليها. ورغم ازدياد كمية الجلود الناتجة عن إبادة عدد كبير منها، إلا أن الفنان أظهر ولادة أعداد كبيرة من الجواميس الصغيرة، في رمزية للاستمرارية وتجدد الحياة. ويتكرر استخدام ورق العنب والعنب في اللوحات السبع، بطريقة جمالية تغطي أعلى اللوحات وأفقها، في تجسيد رمزي للوفرة والحماية، كما سبقت الإشارة أعلاه. وتتجلى الرمزية هنا في أن الجواميس وبالتالي من يربّيها لا يمكن أن تُباد كليًا، بل ستبقى، وستواصل أجيال جديدة المسيرة.
وقد استخدم الفنان شكل مقاييس الرسم على معرشات ورق العنب وأظهرها، في إشارة إلى أن التطور العلمي يمثل سلاحًا في مواجهة أعداء الإنسانية، وحروبها البيولوجية. ويطرح هذا المشروع، بعد تأمله وقراءته، سؤالًا مهمًا: هل ستكون النهاية بانتصار الرأسمالية على الشعوب المقهورة، فلا يبقى لهؤلاء سوى الحلم بالجنة والتي رُمز إليها بعدد اللوحات السبعة، حيث أن للجنة سبعة أبواب؟ أم ستثور الشعوب كما في أسطورة “كوخلين” ذو الأصابع السبعة، بحربته “غاي بولغا” وحصانه الرمادي، ويخرج النور من جبين الشعوب كما كان يخرج من جبين “كوخلين” عند اشتداد المعركة؟ هل ستنتصر الشعوب وتقتل كلب الحراسة الرأسمالية، كما قتل “كوخلين” الكلب الضخم الذي كان يحرس “كولان” الحداد؟
وفي الختام… تمثل التوليدية خطوة متميزة ومتقدمة في تطور الفن، من خلال استثمار الفنان للتقدم العلمي في مجالات الحوسبة والتكنولوجيا. وقد فتح هذا التطور آفاقًا كانت مغلقة أمام الاكتشاف والإبداع، عبر أدوات تعبيرية جديدة ومختلفة. وهذا ما تميز به الفنان الدكتور بشير أحمد في مشاريعه الفنية التوليدية، فكان رائدًا في توظيف التاريخ والمعتقد والتراث والأسطورة، لتقديم مشاريع فنية تحمل أفكارًا عميقة وجديدة.
“عمَّان 20/5/2025”