البرغوثي يكتب: حل الدولتين.. مرة أخرى

د. اياد البرغوثي*

في ذروة الحرب على غزة، عاد الامريكيون وبعض الحكومات في الغرب، للحديث عن “حل الدولتين”. ما الذي يعنيه ذلك؟، وما المطلوب منه؟.
من الملاحظ أن هذا الحديث، أو ما هو قريب منه، يعلو في كل مرة يوجد فيها فعل فلسطيني على الأرض، أو تكون المنطقة قريبة من تغيرات حادة، كما حدث قبيل مؤتمر مدريد، ومن بعده اوسلو، والآن حيث يجري الحديث و”العمل” اسرائيليا وغربيا على صياغة اليوم “التالي” بعد إنتهاء الحرب على غزة.
حل الدولتين.. شيء من التاريخ
كان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947، هو أول حديث عن حل الدولتين، عندما أقر بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين يهودية وفلسطينية.
من الواضح أن “صانع” ذلك القرار، الذي أعطى الأقلية اليهودية المساحة الأكبر والأكثر استراتيجية (وغير الهامة توراتيا)، وأعطى الفلسطينيين المساحة الأقل (مساحةً وأهمية)، قد أراد له أن يُقبل صهيونيا ويُرفض فلسطينيا، وهو ما حصل. كما أن الأحداث التي أعقبت إتخاذ القرار، ومواقف الدول الكبرى (أمريكا وحلفائها والاتحاد السوفياتي وحلفائه) في حينه، تشير إلى أن الهدف الفعلي منه، كان فقط إنشاء الدولة اليهودية (اسرائيل)، وأن موضوع إقامة الدولة الفلسطينية لم يكن جادا أو حقيقيا منذ البداية.
هل يمكن لعاقل أن يصدق، أن قرارا قد اتخذته الأمم المتحدة، ووافقت عليه ووقفت خلفه الدول الكبرى كلها، وكذلك الحركة الصهيونية، قد حال رفض القيادة الفلسطينية له دون تنفيذه؟، ثم أليس غريبا أن الشق الأول من القرار الذي ينص على إقامة الدولة اليهودية، قد نُفذ بكفاءة منقطعة النظير، في حين أن الشق الثاني منه، المتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية، هو الذي لم يتم تنفيذه، ولم تُتخذ حتى خطوة واحدة من أجل تنفيذه؟.
اسرائيل.. “باقية وتتمدد”
منذ البداية، رفضت اسرائيل حل “الدولتين”، بمعنى أنها رفضت قيام دولة فلسطينية على أي جزء من أراضي فلسطين التاريخية، رغم قبولها الشكلي بقرار التقسيم، وحالت عمليا دون قيامها.
فبعد قيام الدولة مباشرة، وقبيل قبولها عضوا في الأمم المتحدة حسب قرار 273 للجمعية العامة، أخذت اسرائيل بالاستيلاء على الأراضي “المخصصة” للدولة الفلسطينية، فقامت بضم “المثلث”، وذلك ضمن اتفاقية الهدنة بينها وبين الأردن في رودس في العام 1949. وفي نفس ذلك العام، سيطرت القوات الاسرائيلية بقيادة اسحق رابين على المنطقة التي أصبحت ايلات فيما بعد، ثم سيطرت في العام 1957 على منطقة غلاف غزة التي باتت مشهورة بعد “السابع من أكتوبر”، وذلك إثر العدوان الثلاثي على مصر، وهي المنطقة التي كانت ضمن قطاع غزة وتحت السيادة المصرية في حينه. وفي عام 1967، سيطرت اسرائيل على ما تبقى من قطاع غزة، وعلى الضفة الغربية وسيناء المصرية التي “انسحبت منها إثر اتفاقيات كامب ديفيد، والجولان السوري الذي ضمته “رسميا” الى “اراضيها” فيما بعد. بعد كل ذلك، وبعد ما نشهده من حركة استيطانية مسعورة، في كل الأراضي التي استولت عليها، أليس غريبا أن يبقى هناك من يعتقد، أن اسرائيل لم تكن لتقوم بما قامت به لو وافق الفلسطينيون على قرار التقسيم؟.
سياسيا، لم يُخفِ قادة اسرائيل يوما موقفهم الرافض لقيام دولة فلسطينية. أوضحهم في ذلك وأكثرهم “فجاجة” بنيامين نتنياهو، الذي ظل ثابتا على موقفه منذ أن كان مندوبا لإسرائيل في الأمم المتحدة، إلى أن أصبح رئيسا للحكومة. يفاخر نتنياهو بأنه هو من “منع” قيام دولة فلسطينية.
يبدو أن نتنياهو يعتمد على الذاكرة “الضعيفة” للفلسطينيين وللمجتمع الدولي بالمجمل. فالذي رفض الدولة الفلسطينية منذ عقود، صرح عندما أثارت الولايات المتحدة موضوع حل الدولتين مؤخرا أنه يرفض ذلك، إذ لا يمكن أن “نقدم مكافأة لمن قام بالسابع من أكتوبر” كما قال. لقد حمًل الإسرائيليون كل سياساتهم منذ خمسة وسبعين عاما على السابع من أكتوبر كأن ذلك اليوم هو بداية التاريخ، وكأنه لو لم يكن في ذلك اليوم ما كان، فإن الأمور ستذهب إلى نهايات مختلفة.
لقد أوضح نتنياهو بلا مواربة،أن الأمن غربي نهر الأردن (فلسطين التاريخية) سيكون بيد اسرائيل. هذا يعني أن لا سيادة للفلسطينيين على أي سنتمتر من أراضيهم. هذا يوضح رؤيته لموضوع الدولة الفلسطينية، وكذلك لطبيعة “السلطة” الفلسطينية ودورها.
أمريكا وحل الدولتين
في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة شريكا أساسيا في الحرب على غزة، سواء باشتراك بايدن وبلينكن واوستن في مجلس الحرب الاسرائيلي، أو بجسر الأسلحة الجوي الى اسرائيل، وبمجيء البوارج الأمريكية الى الشواطيء الفلسطينية “لضبط” الحرب، واستخدام النفوذ السياسي لمنع أية محاولة لإيقاف الحرب في مجلس الأمن، وإشغال الولايات المتحدة لنفسها في بحث اليوم التالي للعدوان على غزة، من خلال استخدام نفوذها في البلدان العربية، ومع السلطة الفلسطينية، والمجتمع المدني في المنطقة، عاد الرئيس بايدن للحديث عن حل الدولتين، تلك المعزوفة التي يبدو أنها تُرافق كل محاولة أمريكية لإحداث تغيرات دراماتيكية لها علاقة بالقضية الفلسطينية، أو للحيلولة دون حدوث مثل تلك التغيرات.
حاول بايدن الظهور كحالة انقلابية على سلفه ترامب، فقام بتغيير كافة القرارات التي اتخذها، سواء تلك المتعلقة بالمناخ وبالعلاقات مع الصين وروسيا وبالموقف من اوروبا وحلف الأطلسي. فقط في الحالة الفلسطينية أبقى على كل ما اتخذه ترامب من قرارات لصالح اسرائيل، سواء ما تعلق بنقل السفارة الأمريكية الى القدس، وإغلاق القنصلية الأمريكية فيها، والموقف من ضم الجولان السوري المحتل، وواصل الدفع بإتجاه “التطبيع الابراهيمي” بين الدول العربية وإسرائيل. وأقر مجلس النواب الأمريكي في عهده مشروعا يحظر دخول أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية الى امريكا، ولم يُعِد فتح مكتب المنظمة في واشنطن كما وعد في حملته الانتخابية. تجاهل بايدن القضية الفلسطينية كليا حتى السابع من أكتوبر، ثم عاد ليطرح حل الدولتين.
لفهم الملابسات التي طرحت فيها الولايات المتحدة “حل الدولتين” في عهد الرئيس جورج بوش الإبن، وحتى قبل ذلك عندما قامت بإفشال قيام الدولة الفلسطينية في أعقاب قرار التقسيم، بتأييدها ضم الضفة الغربية الى الأردن وغزة الى مصر، لا بد من الانطلاق من الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، والتي تتلخص في الحفاظ على أمن اسرائيل ومصالحها، وفي الهيمنة على المنطقة التي تتجسد الآن في إيجاد وتعميق حالة التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.
يشير الواقع الى شبه تطابق أمريكي اسرائيلي في الموقف من القضية الفلسطينية. ان الاختلاف الذي يظهر أحيانا في الموقف بينهما خاصة في موضوع حل الدولتين، لا يعدو أن يكون خلافا على فهمهما لمصلحة اسرائيل، ففي حين تعتقد دوائر أمريكية أساسية، أن قيام “دولة” فلسطينية بمواصفات معينة هو مصلحة اسرائيلية، يعتقد الصهاينة الأكثر راديكالية أن مصلحة اسرائيل تتناقض جذريا مع أي شكل من اشكال الوجود الفلسطيني… انه خلاف بين اسرائيل المثقلة بالايديولوجيا العنصرية، وأمريكا المثقلة بالإستراتيجيا.
أول رئيس أمريكي تحدث بوضوح عن حل الدولتين وأصّل له كان جورج بوش الإبن، في أعقاب مؤتمر مدريد. هو من قال بضرورة قيام دولة فلسطينية “تتعايش” مع إسرائيل. كل الرؤساء والادارات الأمريكية التي تلت بوش رددت نفس الكلام، حول إنشاء الدولة الفلسطينية ومواصفاتها وشروط وجودها. فعلت ذلك إدارة أوباما غالبا على لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ثم الرئيس ترامب، وأخيرا الرئيس بايدن.
الغريب ان الرؤساء الامريكيين الأربعة من بوش الإبن الى بايدن، مرورا بأوباما وترامب، قد تحدثوا عن ضرورة وجود “قيادة فلسطينية جديدة” كمتطلب لإنشاء الدولة الفلسطينية. والملفت للنظر ايضا، أن الرؤساء الأربعة تحدثوا عن اقامة الدولة الفلسطينية، ولم يتطرقوا الى الاحتلال الاسرائيلي وضرورة إنهائه لتقوم الدولة. إنهم لا يرون أي إشكال في وجود الدولة ووجود الاحتلال. ان نموذج السلطة في الضفة الغربية، ربما هو تجسيد عملي لرؤيتهم. ترامب على سبيل المثال، يعتقد أن حل الدولتين هو “أفضل خَيار للفلسطينيين والاسرائيليين”، وفي نفس الوقت يعترف بالقدس “الموحدة” عاصمة “أبدية” لإسرائيل، ويسعى للتطبيع بين اسرائيل والدول العربية.
كما اجمع الرؤساء الأربعة، على أن الدولة الفلسطينية “العتيدة” هو مصلحة اسرائيلية بالدرجة الأولى، لذلك لا يمكنها أن تقوم إلا من خلال “اتفاق مباشر” بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، بمعنى أن لإسرائيل حق الفيتو في قبول الدولة أو رفضها، وكذلك في تحديد مواصفاتها. واعتبر الأربعة صراحة أن الهدف الأول للدولة الفلسطينية هو حفظ أمن اسرائيل. لقد كان بوش الإبن الأكثر وضوحا في هذا الموضوع، عندما قال بأن “هناك مصلحة كبيرة لإسرائيل في نجاح قيام دولة فلسطينية، ذات طابع ديمقراطي، فدوام الاحتلال يهدد هوية اسرائيل وديموقراطيتها، وقيام دولة فلسطينية مستقرة ومسالمة ضروري لتحقيق الأمن الذي تتوق اليه اسرائيل “.
ان قيام الدولة الفلسطينية في العقل الاستراتيجي الأمريكي ليست مسألة فلسطينية اسرائيلية فقط، بل هي جزء من ترتيب أمريكي للمنطقة كلها. كان الرئيس بوش واضحا عندما تحدث عن أن الدولة ستقوم في إطار اتفاق مع اسرائيل ومصر والأردن، بشأن الأمن وغيره من الترتيبات من أجل “الاستقلال”.
كل ما يتعلق بالدولة الفلسطينية عند الرؤساء الامريكيين، هو ضبابي ومؤقت ومشروط ومتروك “للزمن” ولاسرائيل. يقول الرئيس بوش في خطابه حول سياسته في الشرق الأوسط في 24/6/2002، “وحينما تكون هناك قيادات جديدة للشعب الفلسطيني، ومؤسسات جديدة، وترتيبات أمنية جديدة مع جيرانه، فإن الولايات المتحدة ستؤيد قيام دولة فلسطينية، تكون حدودها وجوانب معينة من سيادتها مؤقتة، الى حين الاتفاق عليها في إطار تسوية نهائية في الشرق الأوسط”.
اضافة الى التأكيد الأمريكي على ضرورة وجود قيادة فلسطينية جديدة من أجل قيام دولة فلسطينية، والذي يعني فيما يعنيه، تحميل الفلسطينيين مسؤولية عدم قيامها، من المفيد جدا معرفة بماذا توجه الرئيس بوش عندما خاطب الاسرائيليين والفلسطينيين في نهاية ذلك الخطاب الشهير. قال للاسرائيليين ” عشتم طويلا تحت وطأة الخوف والجنازات.. ورفضت السلطة الفلسطينية يدكم الممدودة وتعاملت مع الإرهابيين.. واعتقد اعتقادا جازما بأنكم تحتاجون الى وجود شريك فلسطيني صالح ومسؤول لتحقيق هدف الأمن”. وعندما خاطب الفلسطينيين قال: “أتفهم الغضب واليأس العميقين اللذين يستبدان بالشعب الفلسطيني، فلعقود عوملتم كرهائن لصراع الشرق الأوسط، واحتُجزت مصالحكم رهينة لإتفاق سلام شامل بدا وكأنه لن يتحقق… من حقكم الديمقراطية وحكم القانون.. من حقكم العيش في مجتمع مفتوح واقتصاد مزدهر.. من حقكم حياة مفعمة بالأمل لأطفالكم”.
هكذا اذا، الاسرائيليون يعانون من الخوف والموت ويحتاجون للأمن، ويستحقون شريكا فلسطينيا يحقق لهم ذلك الأمن. والفلسطينيون غاضبون ويائسون، وهم رهائن لصراع الشرق الأوسط (وليس للاحتلال الاسرائيلي )، لذلك فهم محتاجون للديموقراطية وحكم القانون والمجتمع المفتوح والاقتصاد المزدهر، وليس للاستقلال والتخلص من الاحتلال وحق تقرير المصير.
اذاً يأتي الحديث الأمريكي عن حل الدولتين في “مواسم” معينة. وغالبا، إن لم يكن دائما حتى الآن، يكون ذلك مجرد حديث يقصد منه أي شيء إلا إقامة الدولة الفلسطينية، رغم أني أميل الى أن أمريكا ترى أن إقامة “دولة” فلسطينية بالمواصفات “المطلوبة” هي في صالحها وفي صالح اسرائيل، أي ليس لها علاقة بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
هذا ما يتضح من الحديث عن الدولة دون التطرق الى الاحتلال، ولا حتى عن وقف إطلاق النار في غزة. فالحديث عن الدولة الفلسطينية بالمفهوم الأمريكي، هو جزء من الترتيبات لصناعة اليوم “التالي” للحرب على غزة على الطريقة الأمريكية.
خُلاصة
ليس من السهل، ولا يُنصح، أن يتخيل الفلسطينيون دولتهم المصنوعة أمريكيا أنها ستكون مختلفة عن ما هو موجود في الضفة الغربية الآن. فالحديث يجري عن دولة تحقق الأمن لإسرائيل، ولكل من تريد أمريكا أن يتحقق الأمن له والفلسطينيون بالتأكيد ليسوا منهم. ومن تجربة الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية، فإن تحقيق الأمن لإسرائيل يعني إبقاء الحدود في أيدي الاسرائيليين، وكذلك الاقتصاد، والموارد، والمياه والطاقة والفضاء والامواج السلكية واللاسلكية، والمواصلات وحركة الناس. انها ليست دولة منزوعة السلاح فقط، بل دولة منزوعة كل ما يمكن أن يتخيله المرء من عناصر “السيادة”.
ربما من باب السخرية،أن ما سينطبق على الدولة الفلسطينية ذات المواصفات الأمريكية والإشراف الاسرائيلي المفهوم الماركسي للدولة، وليس أي تعريف آخر. فهي في هذه الحالة، لن تكون إلا أداة “قمع” للطبقات الفقيرة والمحرومة من الفلسطينيين، وستكون دولة “اميبية” تتخذ شكل “الإناء” الذي تضعه فيها امريكا وإسرائيل، أي أسيرة لظروف نشأتها. انها “دولة” موجودة “افتراضيا” لا تنشأ في سياق حق تقرير المصير للفلسطينيين بل في سياق السلب المطلق لذلك الحق.
لا ينبغي أن يكون الفلسطينيون بالمطلق مع “أية” دولة تُقام لهم. فهم ليسوا بحاجة لإدراك أن ما يخطط لهم أمريكيا واسرائيليا (على الأقل)، في هذا المجال، سيكون عبئا اضافيا على قضيتهم الوطنية. أما الدولة التي يمكن أن تنبثق من تضحيات الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها ومناصريهم ومن عدالة القضية الفلسطينية، ومن تفهم الرأي العام العالمي الملفت للنظر للحق الفلسطيني وللعدوان الاسرائيلي، فهي بالتأكيد ستكون مرحبا بها.

*باحث وأكاديمي فلسطيني/ رام الله

زر الذهاب إلى الأعلى