الأبعاد التناقضية لمركبات الهوية الإسرائيلية

د.عقل صلاح*

في الحديث عن التناقض بين مركبات الهوية الإسرائيلية ينبع التناقض الجوهري مابين الإسرائيلية اليهودية – الصهيونية – القومية – الديمقراطية من المكونات والمنطلقات والخلفيات التي ينطلق منها كل مركب، الأمر الذي يعني أن المزاوجة بين كل مفهومين أو الجمع بينهم جميعًا ينطوي على خلل بنيوي وأزمات كامنة وأخرى ظاهرة على صعيد الفكر والممارسة، والإشكالية الأساس من بين هذه المركبات تتلخص في العلاقة بين اليهودية والصهيونية، فاليهودية ديانة تنطلق في تعريفها لذاتها من مرجعية غيبية وتاريخية تخص اليهود كجماعة دينية تؤمن بمعتقدات وتتشبه برموز دينية تختلف تمامًا عن الصهيونية التي أحدث مفهومها أزمة عميقة لليهودية وقوضت في خطابها الديني المسياني واستولت على رموزها وحولت نفسها إلى حركة خلاصية يهودية تسعى إلى إقامة وطن قومي لليهود زاعمة أن يهود العالم يتحدرون من نسل واحد ويشكلون قومية واحدة.

إن المقولة الأساسية في الصهيونية تقوم على فكرة نفي المنفى، أي أن حياة اليهودي في المنفى غير طبيعية وناقصة، ولا يكتمل الوجود والمعنى الروحي إلا عندما يلتقي يهودي المنفى أرض إسرائيل، ويقيم بيته القومي. وهذه الرؤية الصهيونية تصطدم بالضرورة مع الرؤية الدينية اليهودية التي يشكل المنفى أحد أهم معتقداتها كشكل من العقاب الإلهي إلى أن يأتي المسيح المنتظر ويقيم لليهود دولتهم. وفي هذا السياق ادعت الحركة الصهيونية أنها حركة تحرر قومي، وبأنها ستخلص اليهود من الانتظار السلبي ومن حالة الاضطهاد الدائمة الممارسة بحقهم على حد زعمها، وستعيدهم إلى مسرح التاريخ.

ومن أجل أن تحقق الصهيونية غايتها استعانت بالقوى الاستعمارية الغربية وتبنت خطابها وأدواتها، حيث استغلت تنامي مظاهر اللاسامية ضد اليهود، بحيث شكلت هذه القضية إحدى أهم المحفزات لانطلاق الفكرة الصهيونية. ومنذ ظهور الصهيونية وحتى اليوم نشب صراع ما بين اليهودية والصهيونية وما زالت اليهودية ومختلف تياراتها ترفض الصهيونية وتعتبرها حركة علمانية ملحدة تشكل خطرًا على اليهود واليهودية.

وفي خضم هذا الصراع نشأ تيار ديني عُرف باسم الصهيونية الدينية حاول المزاوجة بين الدين اليهودي والصهيونية، وبرز على رأس هذا التيار الحاخامان كوك الأب والابن، اللذان حاولا تفسير التاريخ والأحداث السياسية من منظور ديني. رأى هذا التيار بالصهيونية فصلاً من فصول الخلاص الديني وليس تدخلاً في شؤون الإله، وقد تعزز هذا التيار بعد حرب 1967 إذ رأى في احتلال مناطق جديدة وخاصة أراضي الضفة الغربية شكلاً متممًا للرؤية الخلاصية اليهودية. إلا أن هذه الصهيونية الدينية المهجنة انهارت بعد اتفاقيات أوسلو وتوالي الانسحابات من لبنان وغزة وظهرت على أنقاضها صهيونية دينية جديدة أكثر قومية وأقل تدينًا، وبهذا فإن هذا التزاوج الغريب ما بين الصهيونية واليهودية سيظل يفرز هويات مشوهة تعبر عن استمرار الأزمة وتشكل دفعًا باتجاه حلها.

أما تزاوج مفهومي اليهودية والديمقراطية الذي يعد مركبًا أساسيًا في الهوية الإسرائيلية القومية فقد انطوى هو الآخر على تناقض ديني واضح بخلاف المرجعية بين المفهومين، ذلك أن اليهودية وما تتضمنته من معتقدات تتنافى تمامًا مع الديمقراطية التي تقوم على أساس المواطنة والحريات وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر. وإسرائيل بصرف النظر عن تعبيراتها الفوقية الأيديولوجية، هي ظاهرة استيطانية إجلائية لا تطرح نفسها دولة قومية ولذلك فمهمة نظام الحكم الرئيسية فيها هو تجسيد هذا المضمون السياسي واقعًا على الأرض، الأمر الذي ينفي عنه سمة الديمقراطية الفعلية.

ففي الوقت الذي تعترف إسرائيل بيهود الشتات كمواطنين تلقائيين فور وصولهم إلى إسرائيل، فإن مواطنة الفلسطينيين العرب في إسرائيل تبقى نظرية جزئية، فيما الفلسطينيون في الأراضي المحتلة يتعرضون لقمع وحشي وممارسات عنصرية، وبعد إقرار قانون القومية الأخير وتكريس يهودية الدولة وطابعها على حساب الديمقراطية المزعومة، فإن الإصرار على المزاوجة بين اليهودية والديمقراطية ينطوي على مفارقة كبيرة ويؤكد على أن اليهود جماعة أعلى من الدولة، ويعزز هوية إسرائيل كنموذج للديمقراطية العنصرية، حتى بين اليهود أنفسهم هناك عنصرية وتمييز وأكبر مثال التعامل مع اليهود الاثيوبيين في مقابل اليهودي الغربي.

*كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.

زر الذهاب إلى الأعلى