إيران والعرب.. وخطورة “النيران الصديقة”

بقلم:الدكتور إياد البرغوثي

عندما اقترحنا في كتابنا “تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية” مشروعا للشرق يهدف إلى ضرورة تقارب شعوبه، وإلى إيجاد وعي مختلف به يعطيه معنى جديدا، أو يجسده بمنطق آخر لا يتوقف عند خصائصه التراثية، بل يذهب به إلى الاستراتيجي الذي يؤكد وحدة مصالح شعوبه العليا، والتي تتمثل أساسا بضرورة خلاصه الحقيقي من الهيمنة الامبريالية، وانطلاقه المستقل نحو الحرية والتنمية والتطور، لم يتطرق المشروع الى وحدة سياسية لبلدانه لعلمنا أن دون ذلك جبال من العوائق، بل اقتصر الحديث عن وعي يصبح جزءا من الثقافة.
فبخلاف الغرب الذي استطاع أن يظهر ككيان جيواستراتيجي واحد.. كذات واحدة، في ذهن أبنائه وفي ذهننا نحن في الشرق ايضا، لا يقتصر على اعطائه صورا نمطية معينة رغم اختلاف شعوبه الكثيرة وخلافاتها، وإنما ايضا اعتباره ذاتا فاعلة، بحيث نتحدث عن موقف الغرب من قضية معينة أو نناقش ردود أفعاله على قضية أخرى، بقي الشرق كيانات ومجموعات تجمعها صور نمطية وانطباعات تكونت لدى الآخرين عنه أو لديه هو نفسه عن ذاته.
لم يستطع الشرق.. شرقنا.. تجاوز الصور النمطية التراثية عنه، ولم ينجح أن يصبح، لا في ذهننا، ولا في ذهن الغرب ذاتا فاعلة واحدة. فليس باستطاعة أحد أن يتحدث عن موقف الشرق من الحرب في اوكرانيا مثلا، في حين اننا نستطيع أن نتحدث عن موقف الغرب من ذلك بكل أريحية. نتحدث عن سياسات الغرب ومواقفه ومؤامراته بينما لا يصح ذلك بالنسبة للشرق.
يعود ذلك لامتلاك الغرب مشروعه في حين أن هذا ليس موجودا بالنسبة للشرق، لذلك لا بد للشرق من مشروع يحقق فيه ذاته، ويتصدى به للمشروع الآخر الذي استهدفه وما زال. هذا المشروع يفترض أن يبدأ ثقافيا تحمله وتتبناه النخب الثقافية ويمتد للشعوب، وسيكون واقعيا أكثر لو تبنته نخب سياسية في المنطقة أو بعض دولها.
خصوصية هذا المشروع…
ما يميز هذا الطرح لمشروع تقارب شعوب الشرق، هو أنه يتكئ على المصالح المشتركة لتلك الشعوب، تلك المصالح المبنية على وحدة الجيواستراتيجيا لدول المنطقة. لكن الاستناد الى هذه الجيواستراتيجيا كمرجعية عليا لتحديد المصالح، لا يغفل عن العوامل الأخرى التي قد تدفع باتجاه تحقيق ذلك المشروع، مثل الفكر والايديولوجيا والانتماء القومي والديني والثقافة والتاريخ. لكنه يدرك أن هذه العوامل التي يمكن أن تكون رافعة للمشروع في ظروف معينة، قد تصبح معيقة له في ظروف أخرى، خاصة إذا كان الحامل الاجتماعي لهذه العوامل متعصبا ومحدود الرؤيا. إن اعتبار الجيواستراتيجيا جاء لثباتها وديمومتها وعدم خضوعها لتفسيرات مختلفة وامزجة مختلفة كما هي عليها العوامل الأخرى.
مشروع الشرق الذي يعني في ما يعنيه توسيع الجغرافيا ذات الاهتمام، يؤدي الى اتساع أكبر في مجال الرؤيا، ويعطي زخما أكبر لكافة الأطراف المكونة له، العرب والايرانيون والاتراك والكرد والامازيغ وكل العناصر الأخرى المكونة لشعوب المنطقة. كما أن تبني ذلك المشروع سيغير من طبيعة المشاكل بين هذه المكونات وطريقة ايجاد الحلول لها، فالمشاكل بين أرمينيا واذربيجان، وبين روسيا واوكرانيا عندما كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي، كانت مختلفة عنها جذريا بعد زواله.
إيران وتحرير الشرق…
يذكر كتاب “تحرير الشرق…” أنه في حال أصبح من الممكن أن تتبنى دولة أو دول في المنطقة لهكذا مشروع، فإنه يجب أن يتوفر فيها شرطان اساسيان كحد أدنى؛ أن يكون لها مشروعها الذاتي بحيث لا تكون جزءا من مشروع آخر، خاصة اذا كان ذلك المشروع الآخر يستهدف المنطقة بالأساس مثل حلف الناتو على سبيل المثال، وأن يكون لتلك الدولة موقفا جذريا مساندا لقضية فلسطين، على اعتبار أن هذه القضية هي القضية المركزية للشرق، وهي التي كان احتلالها أساسا لفرض هيمنة الغرب الامبريالي على المنطقة، وكان انشاء اسرائيل مكانها ضمانا لاستمرار تلك الهيمنة ولتأبيد الفرقة بين جناحي العالم العربي والشرق بالمجمل.
عند مراجعة مدى انطباق الشرطين اللذين حددهما الكتاب على دول المنطقة، لمعرفة مدى ملاءمتها للانخراط في “مشروع الشرق”، وضمن الجغرافيا التي ارتآها الكتاب نفسه كانت إيران هي الأقرب، فهي التي تملك موقفا جذريا معلنا الى جانب القضية الفلسطينية، وهي التي تملك مشروعها الذاتي، فهي ليست محسوبة على حلف عسكري أو سياسي مع أي من الاقطاب الدولية الفاعلة.
الحديث عن إيران في هذا السياق لا يعني- وهنا أرد على بعض المنتقدين- إن كان الموقف الايراني المعلن من فلسطين حقيقيا أم “ادعاء”، أو هو من أجل أن يسهل عليها “التمدد” في المنطقة أم غير ذلك. كما لا يعني بأي حال من الأحوال موقفا تقييميا من المشروع الايراني ذاته بعيدا عن كونه مشروعا ايرانيا ذاتيا، اعجابا أو عدم اعجاب، ولا موقفا من النظام السياسي الايراني، ولا من سياسات إيران الاقتصادية والثقافية، ولا موقفا من موقفها من الحريات وحقوق الانسان والمرأة أو من مشروعها النووي وكل ذلك.. هو فقط حديث عن أن المشروع الذي تتبناه إيران هو مشروعها وليس الا مشروعها.
عند الحديث عن مشروع الشرق، فاذا كانت إيران معنية بالانخراط فيه، ولعب دور اساسي في تجسيده، فإن عليها العمل على تطوير مشروعها ليصبح ملائما ليكون مشروعا للشرق كله. هذا يتم بالحوار والتفاعل الإيجابي مع مختلف مكونات المنطقة بلدانا وشعوبا ونخبا وقوى فاعلة، بحيث يكون ذلك مبنيا على العامل الأساس الذي تحدثنا عنه، وهو الموقف الجذري والجدي من فلسطين وقضيتها. المعادلة في هذا الإطار واضحة، فإن لم تكن فلسطين لا يكون شرق، وهذا ما نعيشه اليوم بكل تفاصيله.
إيران والعرب.. الحوار يبدد المخاوف.
يشهد لإيران موقفها من القضية الفلسطينية ووقوفها الى جانب حركات المقاومة في المنطقة، واستعدادها لتقديم الدعم الاقتصادي للشعوب والبلدان المتضررة من الامبريالية الغربية بما فيها بلدا بعيدا كفنزويلا. ان موقف إيران الداعي الى خروج الغرب الامبريالي من المنطقة، والى ترك شعوبها لتحل مشاكلها البينية دون تدخل الآخرين، هو موقف يجب أن يكون محل تقدير بلدان المنطقة وشعوبها ايضا، وهو ما يعني التحرير الحقيقي للشرق في ما لو حصل.
لكن ذلك على أهميته، لا يكفي لتبديد بعض المخاوف التي توجد لدى كثير من النخب العربية والشعوب العربية اجمالا، من بعض التصرفات والتصريحات المثيرة للجدل، التي تصدر عن جهات ايرانية رسمية أو شبه رسمية بين الحين والآخر، كتلك التي صدرت مؤخرا حول الاحتجاج على تسمية الخليج العربي أو الموقف من “عروبة” العراق.
مفهوم استياء إيران من بعض السياسات الرسمية العربية التي تضع اسرائيل في مقابل إيران، بمعنى تلك التي تربط التخوف من ايران بالتقرب من اسرائيل. لكن الحذر مطلوب هنا، إذ لا يجب الخلط بين الإجراءات التي تتخذ للتصدي لبعض السياسات العربية الرسمية المعادية لإيران، وبين اجراءات وسياسات وتصريحات ايرانية تستفز الشعوب العربية بالمجمل.
في ظل الحديث عن مشروع للشرق الذي يقتضي أساسا التصدي للمشروع الامبريالي الغربي والمشروع الصهيوني، يفترض أن يكون التوجه للمشاكل البينية لشعوب المنطقة مختلفا، بحيث يتم التعامل معها كخلافات داخلية، تعالج بالحوار والتفاهم والاحترام المتبادل. كما ينبغي الابتعاد عن التعصب القومي والطائفي والايديولوجي والاستدعاء المثير للجدل للتاريخ، والذهاب الى ما يصنع المستقبل المشترك الواعد لشعوب المنطقة. هذا الكلام موجه للإيرانيين وللعرب ولكافة شعوب الشرق.
من الطبيعي أن يكون هناك تنافسا في المنطقة بين اقطابها في ظل غياب مشروع الشرق الذي يوحد اهدافها. في سياق ذلك، من الطبيعي ايضا أن يوجد تنافسا سياسيا بين إيران والسعودية (وغيرها) في بعض دول المنطقة وخاصة في العراق، الذي يملك حدودا مع البلدين ولديه الكثير من المشترك معهما. لكن أساس هذا التنافس يفترض أن يكون حول خيارات العراق الاستراتيجية في الساحة الدولية، وليس حول هويته القومية.
ينبغي أن يكون واضحا، أن التقارب الاستراتيجي مع إيران، سواء من قبل العراق أو سوريا أو أي بلد عربي، لا يفترض ولا يتطلب تخليها عن العروبة، أو أي عنصر من مكونات هويتها، تماما مثلما لا يتطلب اقتراب إيران من العرب، تخليها عن انتمائها القومي أو الايديولوجي وغيره. إن هاتين المسألتين ليستا ذات صلة قطعيا.
ينطبق ذلك ايضا على تسمية الخليج العربي أو الفارسي، فإثارة موضوع من هذا النوع في لحظة عالمية غاية في التعقيد، لا ينم عن رصانة فكرية واستيعاب استراتيجي لما يحدث، بل عن مراهقة شوفينية ينبغي على “العقل الايراني” الذي يشهد له بالذكاء في كثير من المحطات أن ينبذه.
من البديهي، أن للتسميات اهميتها الكبرى عندما يريد طرف أن يلغي طرفا آخر كاستبدال اسم فلسطين بإسرائيل، لكن الخليج سواء كان الفارسي أو العربي فإن ذلك لن ينعكس – أو هكذا يفترض – على الطبيعة الديموغرافية لشعوبه، ولا على الخيارات الاستراتيجية لبلدانه، ومن المهم ملاحظة أن استخدام الغرب للأسماء المختلفة للخليج يتبع مواقفه السياسية المتغيرة تجاه المنطقة.
في ظل ما يجري من محاولات غربية وصهيونية لتعميق الخلافات بين الايرانيين والعرب، يجب توخي الحذر من طرح مسائل تنمي تلك الخلافات.
من الطبيعي أن تبرز المشاكل بين البلدان المتجاورة، لكن حلها ينبغي أن يكون بالحوار والتوجه الايجابي والاهتمام المشترك بالقضايا الكبرى… الأمل هنا أن تكون هذه الاشكالات التي حدثت مؤخرا مناسبة لبدء حوار بين مثقفي المنطقة لإيجاد رؤى مشتركة أو متقاربة، وهذا ليس بالطبع بديلا عن حوار السياسيين.

* اكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

زر الذهاب إلى الأعلى