أجراس الإنذار الإستراتيجية… أين هي؟

الدكتور إبراهيم بدران

تكاد لا تمر بضعة أشهر حتى يفاجأ الوطن والمواطن على حد سواء، بواحدة من المشكلات الكبرى التي تهدد الأمن المجتمعي تبرز بشكل يدعو إلى القلق.. فتهرع الأجهزة الحكومية ذات العلاقة بالعمل بسرعة، وربما بتسرّع لتغطية الموضوع على “طريقة الفزعة”. أما أين كانت المؤسسات المعنية طيلة الفترة الماضية..؟ وماذا كانت تنتظر؟ ولماذا تغاضت عن المشكلة حتى التفاقم فلا إجابة على ذلك.
حين وقعت مأساة السلط نتيجة لنفاد الاكسجين، تساءل الجميع: ألم يكن هناك أجهزة كهربائية ومؤشرات الكترونية ومنظومة حواسيب تبين الموجود من الأكسجين والاحتياطي المتبقي وتعطي الانذار فوراً على الهاتف الجوال للمسؤول؟ الا يوجد دليل للعمل والاجراءات التي يجب اتخاذها فوراً؟ الا يوجد مسؤول يتابع الارقام الاساسية التي تصله ساعة بساعة ويوما بيوم؟
وقبل أسابيع صرحت وزارة المياه بأننا سنواجه عجزاً في المياه في صيف هذا العام يصل إلى 48 مليون متر مكعب، وأن مباحثات مع إسرائيل (للأسف الشديد) جارية لشراء 8 ملايين متر مكعب. وتساءل أبسط مواطن في أصغر قرية ألم تجدوا حلا أفضل من إسرائيل لشراء الماء منه؟ وهل يقع العجز في مياه الشرب فجأة؟ ويظهر من وراء السحاب بدون مقدمات؟ أم أنه نتيجة لتراكم سنوات من الضعف في النظام المائي؟ سواء أكانت قلة الأمطار أو درجات الحرارة والجفاف، أو استيلاء الآخرين على حصصنا من المياه المشتركة، أو الهدر او السرقة؟
هذا بينما العالم منذ 30 عاماً يشير إلى التغيرات المناخية وتأثر منطقتنا بها، وان الخبراء والعلماء والكتاب الاردنيين ينبهون السلطات الرسمية مرات ومرات الى خطورة الموقف، خاصة وان التقارير منذ سنوات تشير إلى فقر الأردن بالمياه.
وقبل أشهر تم الإعلان عن وصول البطالة لدينا الى معدل غير مسبوق (24.5 %) أي أن 450 الف مواطن بلا عمل ولا دخل، هذا المعدل يمثل 5 أضعاف المعدل العالمي، وضعف المعدل العربي، و 3 أضعاف البطالة في مصر. وقد كانت البطالة قبل الجائحة 19.3 % بكل ما تعني البطالة من يأس وإحباط وعسر في المعيشة، اضافة إلى اتساع مساحة الفقر والتي تعدت 17 % من السكان. وهي أرقام ضخمة بكل المقاييس، وليست فجائية. بل هي في تصاعد مستمر منذ أكثر من 10 سنوات ولا أحد يدري أين يقع الخط الأحمر للبطالة حتى تتنبه الدولة الى خطورة الموقف فتبدأ بتنفيذ برنامج وطني للمواجهة، من خلال المشاريع الانتاجية الصغيرة والمتوسطة، كما فعلت الكثير من الدول وليس من خلال المعونات المؤقتة.
ومنذ سنوات عديدة والأردن يعاني من تباطؤ اقتصادي لا يناظره تباطؤ في الكثير من دول العالم. فكان معدل النمو الاقتصادي يتراوح بين 1.5 % و2.5 % وهي نسبة ضئيلة بكل المقاييس وأقل من معدلات النمو السكاني، وغير متوقعة أبداً في بلد مستقر، ولديه خبرات منوعة في كل مجال، وغني بالموارد البشرية مثل الأردن، ألا يوجد رقم معين في معدل النمو الاقتصادي يشكل رقم الخطر إذا وصلنا إليه وتكرر، يجب إعلان خطة طوارئ اقتصادية والعمل على تنفيذ برنامج وطني للمواجهة؟
ويحتل الأردن المرتبة الأولى في العالم في التدخين، وخاصة بين الرجال، حيث تصل النسبة الى 80 %. هل يعني ذلك شيئاً لوزارات الصحة والشؤون الاجتماعية والشباب والثقافة؟ كما تنتشر المخدرات بين الشباب بطريقة تدعو الى القلق. متى يصبح التدخين والمخدرات مشكلات يقتضى الامر مواجهتها قبل ان تكبر وتستعصي على الحل…؟
وكذلك الحال بالنسبة للفقر وتآكل الطبقة الوسطى وتهميش الزراعة والباص السريع والمديونية والنقل والطاقة وغير ذلك الكثير.
لماذا أصبح النمط السائد في الادارة ترحيل المشكلات بهدوء واعتيادية، وفي جو من التجاهل والسكوت، والهرب من الحلول حتى تصل الحالة الى ما يقرب من نقطة الانكسار؟ ولماذا لا تقترب الدوائر الحكومية من المشكلات الكبرى قبل أن تتفاقم؟ وقبل أن تصبح عائقاً أمام انطلاق الدولة إلى آفاق جديدة في مئويتها الثانية؟
إن الأمثلة التي ذكرناها أعلاه وعشرات مثلها ليست سراً من الأسرار، بل تشير اليها المؤسسات الدولية في تقاريرها والباحثون في دراساتهم.. ذلك أن تفاصيل أداء الدول ومؤسساتها وما يرافقها من المشكلات، أصبحت لها قياسات رقمية معلنة، يرصدها العالم سنة بعد سنة ويمكن الوصول إليها خلال دقائق.. الأمن المائي، الأمن الغذائي، أمن الطاقة، دليل الصحة.. دليل التعليم.. الحرية… الديمقراطية، كفاءة الحكومة، القضاء، القانون والنظام.. الخ بل لا يوجد اليوم نشاط انسائي على مستوى الفرد أو الدولة، إلا وله معايير دولية متعارف عليها. وعلى ضوء هذه المعايير والأرقام تحدد المؤسسات الدولية والمستثمرون مواقفهم وقراراتهم. والسؤال الذي يتكرر باستمرار: لماذا لا نقارن الأداء لدينا بالمعايير الدولية وعلى ضوئها نضع البرامج للتحسين والتطوير؟.
لقد عملت الدولة منذ سنوات على تطوير القطاع العام، وانشأت وزارات وهيئات ودوائر وحكومة الكترونية ومراكز بيانات وغيرها، ولكن كما يدل عليه الواقع اليومي لم يتحقق التطوير المطلوب، ولا تحقق تجديد فعلي بالأداء باستثناء دائرتين او ثلاث تطورت بالمعنى الصحيح.. لماذا؟ لأن الفهم الخاطئ للتطوير تمثل بالتركيز على تغيير البنية الهيكلية، وتدوير الاشخاص، وإعادة هندسة المسؤوليات ولكن دون الدخول العميق في تأهيل الجهاز الوظيفي ليتنبه الموظف الى انه يعيش في عصر المعلومات والشراكات، وان جميع ما يحتاجه من بيانات موجودة امامه على شاشة الكمبيوتر، ودون تأهيل الإدارات لقراءة المؤشرات والارقام الخاصة بعملها، تمهيداً لتتحمل مسؤولية الارقام وتراجعها. وعلى مستوى الإدارات العليا لم يتم تحديد الأرقام الإنذارية أو الخطوط الحمراء في كل عمل وكل مؤسسة وكل قطاع لتنطلق بعدها أجراس الإنذار، ولا تم تحديد المدى الزمني اللازم للتصحيح او ما يسمى زمن القيادة lead time، ولا توضيح لآلية ايصال هذه الارقام حسب خطورة القطاع الى صانع القرار في المؤسسة او الحكومة لاتخاذ التدابير اللازمة في وقت مبكر.
إن الخروج من هذه الأزمة المزمنة بالغة الخطورة اصبح ضرورة سلامة وبقاء. ولا بد من خطوات تحددها الدولة في الإطار التالي:
1. تكليف فريق من الخبراء والأكاديميين لكل قطاع لوضع المؤشرات والأدلة الرئيسية في ذات العلاقة ومقارنتها بالأدلة والمؤشرات العالمية.
2. تحديد الدوائر والاقسام الأقوى تأثيراً في الوصول إلى الارقام المنشودة، وتأهيل الموظفين للعمل بأسلوب مختلف نحو التحسين والتطوير.
3. تحديد الرقم الانذاري او الخط الأحمر لكل قسم ودائرة في في كل قطاع.
أما بالنسبة للحكومة فلا بد من وضع قائمة بالمؤشرات والادلة الرئيسية التي تعتبر قضايا دولة ، والتي تتطلب التدخل على أعلى مستوى عند وقوعها مثل: النمو الاقتصادي، الماء، الطاقة، البطالة، الفقر، الجوع، الغذاء الخ هذا في حين يضع مجلس الأمة، وبالتعاون مع الخبراء ومنظمات المجتمع المدني، قائمة بالأرقام والمؤشرات الرئيسية التي تشمل الديمقراطية، الحريات، سيادة القانون، كفاءة الحكومة، الفساد والشفافية.. الخ ويتم تخصيص وحدة صغيرة في كل مؤسسة ابتداء من رئاسة الوزراء وحتى البلدية تكون مسؤولة عن متابعة الارقام والعمل مع الآخرين على تحسينها.
إن المستقبل يتحرك بسرعة ،”وإدارة الفزعة” لا تجدي، كما ان ترحيل المشكلات يجعلها اكثر تعقيداً واعلى كلفة، ومن جانب ثان فالعلم والتكنولوجيا المعاصرة لم يتركا مسألة الاّ وفتحا آفاقا غير محدودة لوضع الحلول لها، ومن جانب ثالث فإن امكانات الاردن البشرية لا يجوز إهدارها او تحييدها في ظروف المنطقة غير المستقرة، ومن جانب رابع ان الحلول والمواجهة لا تشترى ولا تستورد من الخارج، ولا تصنعها العبارات الدبلوماسية بقدر ما تصنعها عقول ومهارات وجهود كل مواطن حين تكسب الإدارة ثقته من خلال المبادرة الفاعلة والشراكة الحقيقية والإرادة والعمل.

زر الذهاب إلى الأعلى