لماذا لا يعرف المقاومون الاكتئاب؟ ومن أين يكتسب المقاتلون هذه الصلابة النفسية؟

مَن يثور لا يكتئب، ومَن يكتئب فهو عاجز عن الثورة أو محروم منها، والابتلاع المتواصل للغضب والحنق يتحول بعد فترة إلى اكتئاب”، كما أشار إلى ذلك الأستاذ في علم النفس مصطفى حجازي.

في الحرب الإسرائلية على غزة، وفي سياق الحرب الإعلامية بين الأطراف المتحاربة، كانت إحدى مرتكزات الدعاية الإسرائيلية قائمة على توصيف الفلسطينيين بأبناء الظلام، في مقابل أبناء النور، وغيرها من الأوصاف التي تدور في ذات الفلك.

شيطنة معتادة في إطار الحروب، لكن دلالات هذه التوصيفات تتجاوز معناها المباشر، فيصبح “أبناء الظلام” هم الهمج، وأبناء النور هم أبناء الحضارة، ثم نترك لك فهم أبعاد ما يعنيه ذلك من نزع لأنسنة الشعب الواقع تحت الاحتلال، والمقاومة التي تدافع عن أرضها وشعبها أمام المحتل.

بالتأكيد لم تخترع آلة الدعاية الإسرائيلية هذه المفاهيم، ولا تلك التوصيفات، بل لها جذور ضاربة في التاريخ، تُبعث في سياقات وحروب وأزمنة مختلفة.

على جانب آخر من ثنائية النور والظلام، يشير حقل علم النفس التحرري إلى مفاهيم معاكسة تماما لتلك المعاني التي تبعثها آلة الدعاية الإسرائيلية، فالتأقلم مع واقع مأزوم ومريض بالأساس وعدم الشعور بالتوتر حياله قد يكون مؤشرا على وضع ليس سَويًّا وغير صحي للذات، ومن ناحية أخرى وبحسب ما يقول الطبيب النفسي الجزائري فرانز فانون، فإن إقبال الأفراد على تصرفات وسلوكيات عنيفة وثائرة في ظل الاستعمار ينبغي ألا يُفسَّر بوصفه نتيجة لجنون عقلي أو بوصفه استثارة حادة لنظامهم العصبي، بل بوصفه نتاجا مباشرا للوضع الاستعماري نفسه، ورد فعل على القمع.

يرى عدد من خبراء الطب النفسي أن ردود أفعال المقاومين والمقاتلين في ميادين الحرب ونقاط الاشتباك تعطي ملمحا مهما حول الشعور الطبيعي الذي يتمتع به هؤلاء الأسوياء في اتجاه تحقيق الذات، وكونهم فاعلين في رد الإهانة والعنف لمُسببيه الرئيسيين، تماما كما فعل عدنان أبو ستة الذي قفز فرحا وهو يصرخ “ولعت” عقب نجاحه باستهداف إحدى الآليات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي التي أكلت في طريقها عشرات الأبرياء من المدنيين العزّل.

الاستعمار هو المرض، والمقاومة هي الشفاء

يُوصَف الاكتئاب بحسب مدرسة فرويد في التحليل النفسي بأنه عنف مُوجَّه نحو الذات، فحين يتعرض الإنسان لقهر وتسلط من مصدر خارجي، وعند عجزه عن رد هذا القهر والعنف المُوجهين إليه ومنع نفسه عن المقاومة الفورية، يقوم المقهور باستدخال طاقة القهر هذه إلى داخله.

وجريًا على مبدأ حفظ الطاقة الفيزيائي القائل إن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ولكن تتحول من شكل إلى آخر، فإن الإنسان يقوم بتحويل طاقة القهر الخارجية إلى طاقة توتر داخلية يستهلكها بتدمير ذاته عبر لوم نفسه والحط من شأنه والشعور بالذنب وفقدان القيمة، بل وحتى تشكيل صورة مُشوهة عن الذات مما يؤدي إلى انخفاض المزاج الانفعالي للفرد وتراجع حافزيته وفاعليته، الأمر الذي يؤول في نهاية المطاف إلى عجزه عن أداء وظائفه اليومية وعدم مقدرته على التلذذ بالحياة اليومية، وهذا أول طريق الاكتئاب.

لكن ما الذي سيحدث إذا لَم نكتئب؟ تقول النظرية إن العنف المُحتجز في الذات سيُصرَف باتجاهات مختلفة، أحدها كبت مشاعر القهر وتخزينها كطاقة، ومن ثم الانفجار في لحظة ضاغطة ما، غالبا ما يكون هذا الانفجار في وجه الأشخاص الخطأ، أو تتحول الطاقة المحتجزة إلى عنف نحو الذات، وقد تودي به في النهاية إلى ظلمة الانتحار.

وهذا ما يحدث في هذا السياق، فحين لا تُسعفنا اللغة ولا تُسعفنا قنوات التعبير المتاحة، وحين نشعر بالإحباط وانعدام جدوى الكلمات، وحين نشعر بانسداد ممكنات الواقع، فإننا نجد أنفسنا في لحظة انفجار عنفي مادي وسلوكي عشوائية، لأنها الطريقة الأخيرة التي نملكها لفرض ما نُريد قوله على الواقع المأزوم، والوسيلة المتاحة لجذب انتباه أولئك الذين تجاهلوا كلماتنا لوقت طويل.

لكن تحويل القهر إلى عنف مُوجه للخارج هو الشيء الوحيد الذي لا يرغب المُستَعمِر أو الظالم في رؤيته. من هنا تأتي تدخلات الطب النفسي الغربي لعقلنة شعور المرء بالتناقضات والمظالم والإحباط، وهنا تحديدا يجري العمل على فتح مسارات لتفريغ المكبوت وتحرير طاقة القهر عبر قنوات مسالمة وممكنة، وإيهام المظلوم بضرورة التسامي على مشاعر الغضب وتحويلها إلى طاقة لرفع الإنتاجية في العمل أو تحسين الأداء العلمي والتعليمي. وهذا بُعد آخر يجدر التنويه إليه، إذ إن العلاج النفسي في كثير من الأحيان لا يخدم سوى غاية واحدة هي إعادة الذات لعجلة الإنتاج الرأسمالي واسترجاع كفاءتها الإنتاجية، بدلا من التعطل بفعل الاكتئاب أو القلق الحاد.

زر الذهاب إلى الأعلى