صدور مجموعات حركة شعراء نيسان
عن دار هبة ناشرون وموزعون صدرت ثلاث مجموعات شعرية مطلع هذا العام، أولها هي مجموعة “حِضن الأفول” للشاعر سلطان الزغول، والثانية هي مجموعة “امرأة حجرية” للشاعر مهدي نصير، أما الثالثة فهي مجموعة “أحزان الفصول الأربعة” للشاعر نضال القاسم. وهم الشعراء الذين أطلقوا قبل عام ونيف البيان الأول لحركة شعراء نيسان.
المجموعات التي توحّدت أغلفتها في إطارها العام، بما يعكس التوافق والانسجام بين شعراء الحركة، إذ تضمّنت كل منها مطويتين تحمل أولاهما مقطعا من البيان الشعري الأول للحركة جاء فيه: “يعبِّر هذا البيان عن طموحنا لتأسيس حركةٍ شِعريةٍ عربيةٍ تعي تراثها الشعري وتستوعبه وتهضمه، آخذةً منه ما يناسب رؤاها مقصيةً ما يعيق حركتها التقدمية، في سعيها لعصرنة اللغة الشِّعرية وربطها بالتجربة والطبيعة والموسيقى والأسطورة والواقع بانبثاقاتٍ لغويةٍ وإيقاعيةٍ طازجةٍ بعيداً عن القوالب اللغوية والإيقاعية الجاهزة المتولدة في لحظاتٍ شعريةٍ تاريخيةٍ سابقة”.
كما أكد الشعراء عبر المطوية الأولى أن حركتهم الشعرية لا تتحرَّك بعيداً عن الفاعلية الشعرية العربية المعاصرة، بل إنها تتنفس هواء التجديد الذي أنجزته هذه التجربة الخصبة المتعددة المتمردة على القوالب والنماذج الجاهزة وهي تلقي حجرا في بركة الشعر الراكدة.
أما المطوية الثانية فتضمنت تعليقات بعض النقاد على البيان الشعري الأول للحركة، فورد فيها قول الشاعر يوسف أبو لوز: “خلا بيان حركة شعراء نيسان الأول تماماً من التسييس والتعصب لشكل شعري في حدّ ذاته، فهو ينفتح بشكل حرّ على الكتابة دون قيود أو مصادرات نظرية أيديولوجية… ويفهم من البيان أنه بيان شعري عربي، وليس محدوداً في البيئة الثقافية الأردنية، ما يجعلنا نأمل أن نشهد قريباً دوائر شعرية خضراء بعد أن رميت هذه الحصاة النيسانية في الماء الآسن”.
كما ورد رأي للأستاذ الدكتور محمد قواسمة جاء فيه: “لا شك أن الإعلان عن حركة جديدة في هذا الوقت يشكل حدثًا ثقافيًا مهمًا؛ لأنه يوجه الاهتمام بالشعر ديوان العرب حيث بدأ ينحسر دوره، وتتقلص قيمته… وعلى عاتق الشعراء الثلاثة (مؤسسي حركة شعراء نيسان) يقع العبء في تقديم النموذج التطبيقي لما دعوا إليه في بيانهم”.
من جهة أخرى رأت الدكتورة خولة شخاترة أن بيان الحركة ليس إلا استمرارا واستكمالا للبيانات التي أصدرها رواد الحداثة، والتي تحمل هموما متشابهة، وتهدف إلى كتابة مغايرة. مضيفة أن بيان يوسف الخال ركز على الإنتاج الشعري في لبنان، وبيان محمد بنيس ركز على الشعر المغربي، أما بيان شعراء حركة نيسان فهو ليس خاصا بالأردن أو بلاد الشام، بل هو يؤكد على أنه يعبر عن حركة شعرية عربية.
وقد انفردت كل مجموعة من المجموعات الثلاث بلوحة غلاف خاصة تعبّر عنها. فزيّن غلاف مجموعة سلطان الزغول لوحة للفنانة الأردنية رنا حتاملة التي قامت بتصميم غلافها أيضا، أما مجموعة نضال القاسم فصممت غلافها الفنانة العراقية كفاح آل شبيب، في حين صممت غلاف مجموعة مهدي نصير دار هبة.
إذا ألقينا نظرة على المجموعات الثلاث نجد أنّ مجموعة “حضن الأفول” للشاعر والناقد د. سلطان الزغول الواقعة في (94) صفحة من القطع الصغير تتضمن (19) قصيدة تتفاوت في طولها. ويهدي الشاعر مجموعته إلى أبيه قائلا:
“إلى أبي..
رحل في الربيع
عارفا تفاصيل العشب
وأسرار الغيم”
كما أنه يضمّنها قصيدة بعنوان “مات أبي” يقول فيها:
بعد مئة وستة أعوام قضاها في الجبال وهو يحاول أن يُلملم الينابيع لتتدفَّق ضوءا يكشفُ أسرار الأرض..
أبي مات..
مضى كضوء شفيف معلّق فوق رؤوس الأغصان
فنما العشب من رجليه إإلى أطراف الأشجار
وسَرَت السنابل نحو صدره
فنجد أنه يقرأ أسطورة موت الإله “بعل” الكنعاني وبحثَ الإلهة “عناة” عنه قراءة مغايرة، ويحوّل المسألة الشخصية إلى قضية إنسانيّة:
بعد مئة وستة أعوام من معانقة الزيتون وملاطفة الرمان على أبواب الخريف
قرّر أبي أن ينتقل إلى الفرجة عصر الخامس والعشرين من نيسان
كان يشاهد الربيع حين يخضرّ بألفة
ويرى عناة تتدفّق من أكتاف الغيم
صار يرى أننا نصغُرُ إذ نكبر
ونمضي إلى العطش حين نرتوي..
ومن “قصيدة أيلول” نقرأ مقطعا ذا دلالة يوضح ما في المجموعة من تجليات فنية واشتباكات مع الواقع الشعري وتاريخه المضمّخ بالتفاعيل والانعتاقات، إلى جانب المعاناة الذاتية التي يعيشها الإنسان العربي في زمن الخسارات:
أوقدُ الذكرى لأتشمّم عطركِ الأليف
فيهجمُ الروم..
أخيطُ الحنينَ بحذرٍ كي أستلقيَ ساعةً قربَ شمسِك
فتندفعُ الثآليلُ في وجهِ الألفة..
…
أهزُّ الوردَ في وجه الذبول
فينحني خجلاً من فعل الوقت.
تتحرّكُ موسيقى أيلول،
فتبتهجُ الحقول..
أوقفُ نزفَ التفاعيل بالنثر
فتنفجر التآويلُ في القصيدة..
وتنحني الكلمات كي يمكنها الخروج من الخيام نحو السهل الرحب
وفي قصيدة الجدار التي تُرجمت إلى الإنجليزية مؤخرا ضمن مشروع مشترك بين رابطة الكتاب الأردنيين واتحاد الكتاب التونسيين يقول الزغول:
فوق سقف مُترع بخيبات قديمة وقفت أتأمل الجدار..
كانت السماء تَسْوَدُّ
كانت صخور الجبل العالية تتفتَّتُ
كان الجدار يتعالى…
كانت روحي تتفلّتُ إلى أرض قديمة
يسكنها عشبٌ
يظلّلُهُ شفق أرجوانيّ
تحضِنه امرأة خلابة
فنجد معاناة الشاعر من الخيبات المتتابعة التي صنعت جدارا عاليا يسدّ الأفق، ويبتعد به عن رائحة الجبال والعشب التي تمثّل البراءة والأمل، بحيث يقف في لحظة تاريخية تمثّل القنوط المطلق:
صار قلبي قطعا ممزّقة في فضاء يتلبّد
صرتُ رجسا من عمل الوقت
…
صرت عطرا كئيبا تلفظه الأواني بنزق
لا روائح حريفة
لا غابات تغطي عُري الروح
لا أساور تخشخش بالمحبة
لا وديان تُسيّل الأقمار على الصخور
هذه المجموعة التي تعدّ تطبيقا شعريا لبيان حركة شعراء نيسان بما تتضمنه من تجارب في التجديد وبعث الأسطورة ودمج الخاص بالعام والتلامس مع الحالة العربية الراهنة، تتضمن تجارب في قصيدة التفعيلة والنثر، كما أنها تتضمن نصّا يجمع العمودي إلى التفعيلي والنثر في تجربة مميزة، وهو ما يتجلى في قصيدة “قرب باب دمشق” التي جاء فيها:
دمشق جاءت ترى آثار من رحلوا هاجت سماها تُواري آخر الحَبَق
كم داعبتها أغاني الياسمين ضُحىً وأمْطرَتها صفاء ساعة الشفق
…
السماء تُساقط ماء غزيرا
والرجال يحومون عند ضفاف المدينة
والوحوش أتت لحمها من خلاف..
لكننا نلاحظ أن قصيدة النثر هي الغالبة في المجموعة. وهو ما يفتح أمام المتلقي أفقا لقراءة التجربة وتطوّرها.
إذا ما انتقلنا إلى مجموعة الشاعر مهدي نصير “امرأة حجرية” والتي تقع في (222) صفحة من القطع الصغير نجد أنها تبدأ بقصيدة تحمل عنوان المجموعة وتمتد عبر (26) مقطعا تلامس برودة الصحراء وقسوة عوائها ونياقها الأرامل وصفرتها المنذرة بالموت:
صحراء شاسعة
تنوح الريح في أرجائها
تعوي كذئب جائع
وتنهش البراعم الغضّة
…
آلهة تتساقط من عطش
ونياق أرامل
قافلة من سلاسل رملية
ونجيل نحيل
وأصنام شاحبة تعرج
وفي نصّ آخر بعنوان “شتاء صاخب” نرى مشهدا شاسعا يتضمن شوارع مغسولة وامرأة تركض في يديها قناديل شمع وأيقونة ولفائف خبز، ويمتد ليضم غابة تترجل من عرسها الغامض، فنلاحظ ملامسة العادي وتحويله إلى نص شعري عبر إعادة قراءته من زاوية إبداعية على مستوى التركيب:
شتاء، بروق، رعود
قوافل، صوت عصافير تركض فوق الجذوع المغسلة بالمياه
…
وامرأة تركض في يديها قناديل شمع
وأيقونة ولفائف خبز
حوانيت مشرعة
ورجال يبيعون بعض الحليب
نساء يبعن شطائر من جبنة الماعز
غابة تترجل من عرسها الغامض
وتتضمخ النصوص بروائح العشب واللوز والعسل والعناقيد وكائنات الطبيعة البكر قبل أن تتلوث بزحف المدينة:
لماذا مضيتِ وخلَّفتني وسط العشب
يأكلني الضبّ والذئب والمنّ والعثّ والحشرات الصغيرة
…
لماذا مضيت وكانت بساتين لوزك توشك أن تتبرعم؟
كان قلبك يتخم بالعسل الجبلي
وكانت عناقيدك البيض توشك أن تتحوّل خمرا
وتمضي على الوتيرة نفسها كثير من نصوص المجموعة، فنرى في نص آخر بعنوان “إيقاعات يابسة” بساطة وعمقا، ونلمح ظلالا أسطورية، وتماهيا مع الطبيعة، وروحا رعوية غير منفصلة عن الواقع:
في الغابة كان أبي
كان يعشِّبُ بالفأس الحجرية دغل حشائش
كان يقص جذوع السرو اليابس والمتكسر
أسرف في جمع ثمار الوقت
لوحه البرد ونام على حجر أبيض
…
مازال أبي في الغابة يركض
وأنا أتساقط في الردهة كالعهن المنفوش
وفي قصيدة “محاولة للخروج على بحور الخليل” نجد موسيقى التفاعيل تتدفق من حيث أراد الشاعر أن يتمرد، ما يعكس روح حركة شعراء نيسان التي تنفصل وتتصل بالتراث دون أن تنقطع عنه:
صديقي
ها أنا أزحف كي أتسلل
ها أنا أتهدل مثل قطيع
…
هل أستطيع الهروب
أما في قصيدة “ألواح جلجامش الضائعة” فيتماهى الشاعر مع الأسطورة الرافدية ليقدم رؤيته التي تعمد إلى جر الأسطورة من أذنيها لتطأ أرض الواقع المعاصر مغمّسة بروائح التاريخ وعبق الغابات:
ها أنذا أتقدم
كان الشتاء أغزر
والغابة كانت تبدل جلدها
والمطر الغاضب كان ينظف الألواح من طين تراكم
كانت الوديان كلها
وكانت اللغات كلها تصب طينها الخائف
فوق نقوشها الخرساء
كنت أرمم القطع الصغيرة
أمسح الطين الرقيق عن الحروف.
المجموعة الثالثة لثالث شعراء الحركة نضال القاسم، وهي بعنوان “أحزان الفصول الأربعة”، تقع في (104) صفحات من القطع الصغير، وتتضمن (19) قصيدة متفاوتة الطول. منها قصيدة “كان طيفا وغاب” التي تعج بالأسى والغياب والذكريات المحملة بجمال رحل، فنلحظ عبرها عبرات الخيبة والفراق:
وكان صاحبي
كالمزن في تشرين كان
نهر ينام على ضفاف الأرجوان
ويلقي إلى البحر أسراره
ببطء وحكمة
له رقة الموج والاغتراب
وضاء كوردة
وكان حالما بالضوء والحرية الحمراء
ومن القصائد القصيرة اللافتة في المجموعة قصيدة “تمر البلاد على الذاكرة”، وفيها نرى البساطة المضمخة بالشوق إلى الوطن الحلم، والشك بامتلاك المكان الضائع المتوازي مع يقين الرجوع إليه، والتمسك به الذي يؤكده استخدام تقنية التكرار:
كأن فلسطين لي
أعدد أبوابها والحقول
كأن فلسطين لي
أفتشها مدخلا مدخلا
وأقرع أبوابها كالطبول
كأن فلسطين لي
وأقطعها شارعا شارعا
بعضها بالتمني
بعضها بالغناء
وفي قصيدة “أنا يا أبي كالمطر” نلمح سحابا وأيائل وسرابا وظلالا وريحا وأزهارا وحقولا وسنابل، ونلمح خيلا وغابة وأنهارا وشجرا ومطرا، ثم نرى فاتورة الماء والكهرباء وطواغيت وبرابرة غزاة، ما يشكل حضورا لعناصر الطبيعة عبر رؤية يُطرح الشاعر من خلالها أداة للخصب والخير:
أنا يا أبي كالمطر
يبلل روح الجبال
رويدا.. رويدا
…
لا شيء يشبهني هنا
لا الخواء
لا فاتورة الماء والكهرباء
لا الأقحوان…
أما في قصيدة “إني متعب جدا” فنلمح الجمال الماضي الذي يسيطر على عقل وقلب الشاعر، وهو جمال عابق بعناصر الريف الأليف، لكنْ البعيد، الجميل، لكنْ الضائع:
براعم ورد تضوع بالشذا
عصافير تمرق بين الهنا… والهناك
نعناع طري
وبئر ماء جف طين قاعها
وأصدقاء
ريح كنود في زحمة الحرب تعوي كذئب
وأشجار سرو وكينا اشرأبت فوق هامات الأصيل
ذبالة ضوء يئن ويرتجف
وجدول يموج بالحياة رقراقا شجيا
في قصيدة “الخيل والليل” نلمح الأب الذي يغلف الصورة بجمال روحه وسكينته وعنفوانه، وتتقاطع الأحلام بين الابن الذي يرسم الصورة والأب الذي يشكلها بنبضه المتدفق في الابن:
أنا ظلك البهي يا أبي العاطفي كظل سحابة
أنا غبار الطلع، وردة الصباح، رفاقك الشهداء، رائحة القمح والبرتقال
أنا المد والجزر والخيل والليل ورائحة الفل والبحر دهشة الفراغ
أنا طيفك المخبوء يا أبي في بركة النسيان
أنا جدار بيتنا المرمري القديم
أنا الحقيقة والسراب.
يقول د. علي جعفر العلاق معلقا على مجموعة نضال القاسم: إنه لا يراهن “على جمال زائف أو متعة سريعة الزوال، بل يعول على جمال لا تتكشف عنه إلا المعاناة الفلسطينية وعذابها السيزيفي الذي يتجدد كل يوم. وتلتصق قصائد المجموعة كلها تقريبا بهذا الألم المقيم، تهبه نبرتها الغناءة المجرحة وتستمد منه تأثيرها الوجداني”. أما الدكتور محمد صالح الشنطي فيرى أن أكمام فلسطين تتفتح في هذه المجموعة “فيتضوع شذاها لينتشر في أرجاء الروح، وتنهمر في شرايين القلب جداول زيتها الذي يكاد يضيء حين تمسه نار العشق”.
لعل صدور هذه المجموعات يشكل حدثا ثقافيا أكثر أهمية من إطلاق بيان الحركة الشعري أواخر عام 2017، فنحن أمام نصوص تطبّق الرؤية النظرية التي عبر عنها البيان مضمّخة بانثيالات شعرية غامرة.