النظام العربي والعمى الاستراتيجي
بقلم:د. اياد البرغوثي*
بعيدا عن أية اوهام حول نشأة النظام السياسي العربي وتشكل الدولة العربية المعاصرة، فإن مضي ما يقارب القرن على ذلك، يفترض أن يكون قد وفر لهذا النظام عوامل استقرار كافية تجعله يذهب إلى شيء من التمرد على ظروف نشأته، وتعطيه بعضا من الثقة تخفف من اعتماده على الدول الكبرى وخاصة الامبريالية منها للبقاء، وتعمل على ايجاد علاقة أكثر “معقولية” بين الأنظمة وشعوبها.
في معظم الوقت – باستثناء الفترة الناصرية – تصرف النظام السياسي العربي بدونية مع القوى الامبريالية، فكان يستخدم من قبل تلك القوى، وفي اغلب الاحيان كان سعيدا بذلك الاستخدام، ويسعى له. في نفس الوقت تصرف بعنجهية مع شعبه، تلك العنجهية التي تراوحت بين القمع وبين الاحتقار والتجاهل التام.
هذه الدونية لدى النظام السياسي العربي، اقتضت بأن تبحث الأنظمة المشكلة له عن تموضع مع هذه الدولة الكبرى أو تلك والاستقواء بها على بعضها البعض. ذلك أثر على العلاقة البينية بين الأنظمة العربية بشكل سلبي، فكانت تلك العلاقة سيئة بل ومتوترة في كثير من الأحيان، وصارت فكرة العمل على تقارب شعوب المنطقة غريبة ومستهجنة، وفي المرات القليلة التي نجحت فيها الأنظمة في اللقاء غالبا ما كانت بدعوة من دول كبرى (اجتماع بايدن مع الزعماء العرب في السعودية وكذلك اجتماع الرئيس الصيني معهم). حتى في هذه الحالات النادرة التي التقى فيها ممثلو النظام العربي لم تكن لقاءات تنم عن تقارب في الرؤى بينهم بقدر ما كانت لقاءات “قطيعية” استجابة لدعوة زعيم دولة عظمى.
العالم يتغير
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي هيمن الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة على العالم، وأصبح هو المقرر الوحيد للأحداث الكبرى وأحيانا غير الكبرى في العالم. في هذه الفترة تصرفت الولايات المتحدة وحلفائها بشكل غير مقبول نهائيا، شنت حروبا لا مبرر لها، ودمرت دولا ومجتمعات وقتلت الملايين وغيرت أنظمة واغتالت من ارادت اغتياله وجوعت شعوبا بكاملها، وصنعت اتفاقيات والغت اتفاقيات أخرى. أكبر ديمقراطية في العالم تصرفت كأكبر دكتاتور دموي في العالم.
الولايات المتحدة (والغرب) التي غزت العالم “بقيمها” المتمثلة بالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان قبل جيوشها أيام الحرب الباردة لم تعد بحاجة لذلك عندما تربعت وحيدة على عرش العالم. فلم تعد بحاجة الى حتى التظاهر بوجود قيم وأخلاق، بل ذهبت الى الاحتلال المباشر والحصار الاقتصادي وغير الاقتصادي والإملاء، ولم يعد يرى منها سوى العنصرية والاستعلاء والعنجهية حتى على حلفائها التاريخيين الا مع إسرائيل بالطبع.
هذا التغول على الآخرين بدا بأوضح صوره وأقساها في منطقة الشرق الأوسط. غزو أفغانستان والعراق، وتدمير ليبيا وسوريا، وحصار ايران ولبنان واليمن، واملاءات التطبيع مع إسرائيل على بعض الأنظمة، والحديث العنصري الاستعلائي للرئيس بايدن الذي قال بأن الولايات المتحدة لن تترك المنطقة (الشرق الأوسط) لأن الفراغ ستملؤه الصين وايران… بايدن لا يرى في هذه المنطقة الا فراغا، لا يرى شعوبا ولا يرى دولا ولا أنظمة، ولذلك فهو لا يجد نفسه مضطرا لبذل أي جهد من أجل أن يقول ما يريد أن يقول بشيء من الدبلوماسية ومراعاة للحد الأدنى من الكرامة لبلدان المنطقة.
لكن هذا الوضع الذي تربعت فيه الولايات المتحدة وحيدة على عرش العالم أخذ في التغير الآن، فالصين عملاق اقتصادي يزداد قوة “وجرأة” يوما بعد يوم، وروسيا قوة عسكرية وثبات اقتصادي واستراتيجي. وايران تطور عسكري وصمود اقتصادي ونهضة علمية ودبلوماسية ذكية. اضافة الى بلدان أخرى في أماكن أخرى من العالم تجد نفسها غير مستعدة لدخول بيت الطاعة الامريكي.. هذا الوضع آخذ بالتغير الآن، وبوضوح لا لبس فيه، وعنوان ذلك التغير أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض هيمنتها المطلقة ولا حتى شبه المطلقة على العالم كما كانت في العقود الثلاث الأخيرة.
العرب.. غياب الاستراتيجيا
في مثل هذا الوضع الذي يشهد خلخلة في النظام العالمي، حيث التنافس بين القوى الكبرى يصبح صراعا مكشوفا وبكل الوسائل بما فيها القوة العسكرية، تتهيأ الفرص أمام القوى “الضعيفة” والمكبلة لتحقيق منجزات لم تكن قادرة عليها في ظل “استقرار” النظام العالمي تحت هيمنة القطب الواحد. هذه الفرص ليست كثيرة في التاريخ، والقيادات الحكيمة وذات الرؤيا هي وحدها من تستطيع اقتناصها واستثمارها.
للأسف لا يبدو أن النظام العربي مهيأ لاستثمار هذه الفرصة التاريخية، أو حتى لا يفكر في ذلك، مع أن مصلحته المباشرة، ناهيك عن مصلحة شعوب المنطقة، هي في العمل الفوري من أجل تحسين وضع بلدانه في النظام القادم.
من الواضح أن هيمنة الولايات المتحدة آخذة في التناقص، وبالتالي فإن على النظام العربي الذي يعتقد أن الولايات المتحدة هي التي تحميه وتضمن بقاءه واستقراره لن يكون بمقدوره القيام بذلك الدور في المستقبل غير البعيد.
واذا ما أضفنا الى ذلك تجربة الربيع العربي في السنوات العشر الأخيرة، التي أثبتت – من وجهة نظري على الأقل – أن هذا الوقت الذي نحياه ليس وقت ثورات بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة، وإنما وقت اصلاحات وتوافقات بين القوى المختلفة في أحسن الأحوال، فالربيع العربي في كل البلدان التي أحدث فيها تغييرات لم يمس جوهر النظام، ولم يستبدل نظاما بآخر، إنما جرت تغييرات داخل النظام نفسه، هذا جرى في تونس وفي مصر والسودان وليبيا. إن تشابكا للقوى الخارجية والداخلية، اضافة الى الدور الكبير للمجتمع المدني، مثل مظلة لحماية الأنظمة بحيث يصعب، إن لم يكن يستحيل، إجراء تغييرات جذرية عليها، والإصلاح بات هو الممكن الوحيد في المنطقة.
ما أردت قوله هنا أن على الأنظمة أن تشعر بطمأنينة أكثر في علاقتها بشعوبها وبتنظيماتها السياسية، وأن لا تقرأ مصالحها في تعارض مع مصالح شعوبها، وأن تدرك أنها ليست بالضرورة بحاجة الى قوى خارجية لتثبيت حكمها، ولذلك عليها أن تكون أكثر جرأة في تبني استراتيجيات للخلاص من نظام الهيمنة الامبريالي أو تحسين شروط علاقتها به بالحد الأدنى.
صحيح أن هناك ما يشير الى تطور في فهم بعض الأنظمة العربية لعلاقتها بالولايات المتحدة والغرب، خاصة فيما يتعلق بالحرب في اوكرانيا وبعض السياسات النفطية، لكن هناك ايضا ما يدعو لأكثر من القلق في موضوع التطبيع مع إسرائيل والسياسات المرتبطة بذلك في المنطقة. ان محاولة الفكاك (مهما كانت بسيطة) من الهيمنة الأمريكية لا تنسجم بتاتا مع ما يجري من تمتين متنام للعلاقة بإسرائيل، وهو تعبير عن عدم فهم للعلاقة بينهما.
كل ما يقوم به النظام العربي باستثناء ما أشرنا اليه في موضوع اوكرانيا ومقاطعة روسيا يشير الى ما يعانيه ذلك النظام من تخبط وفوضى الاستراتيجيا أو حتى من غيابها، رغم أن الظرف التاريخي الراهن يتطلب استراتيجيا واضحة وفعلا جديا لتغيير الأوضاع دون تأخير.
يظهر التخبط الاستراتيجي للنظام العربي في الموقف من كل من اسرائيل وإيران. فالأصل والطبيعي أن تكون العلاقة مع إيران جيدة لاعتبارات الجيواستراتيجيا والتاريخ والثقافة بينما العكس تماما بالنسبة لإسرائيل، لكن بعض العرب استبدلوا عدوهم البديهي والطبيعي والاستراتيجي بإيران، وذهبت غالبية انظمتهم للتطبيع مع إسرائيل بلا أي مقابل استراتيجي. فالانظمة العربية التي طبعت مع إسرائيل لم تطلب منها حتى تحديد حدودها التي عليهم الاعتراف بها. ولم يتلفظوا حتى بكلمة واحدة حول المشروع النووي الاسرائيلي بينما تختلف مواقفهم جذريا عند الحديث عن المشروع النووي الايراني رغم الاختلاف بين المشروعين في الأهداف وفي الخطورة. وقبل كل ذلك، لم يطلبوا من إسرائيل الإنسحاب من الاراضي العربية التي تحتلها، ولا حتى بوقف الاستيطان الصهيوني في الاراضي الفلسطينية.
من الغريب أن الأنظمة العربية المطبعة مع إسرائيل لم تطرح مشروعا لخلو المنطقة من السلاح النووي بحيث يطلب من إسرائيل ايضا التخلي عن سلاحها ذلك. لم تسأل تلك الأنظمة نفسها من المستهدف من السلاح النووي الاسرائيلي الذي وجد قبل الثورة الإسلامية في إيران بعقدين من الزمان، بمساعدة إيران الشاه وجنوب افريقيا العنصرية. اعتبرت تلك الأنظمة أن المشروع النووي الايراني هو عدوها فقط ولم تتحدث عن النووي الاسرائيلي بأية كلمة.
من الطبيعي أن يوجد لدى ايران ما يثير شكوك النظام العربي، والعكس صحيح أيضا. لكن هذا لا يبدده إلا الحوار والتواصل الذي ترفضه بعض الأنظمة العربية، في حين لا تتردد تلك الأنظمة ليس فقط في الحوار مع إسرائيل بل في “التحالف” الاستراتيجي معها في كل المجالات. غريبة تلك الثقة الموجودة عند بعض الأنظمة العربية باسرائيل.
لنعد الى جوهر الموضوع، فقد يكون استمرار انصياع النظام العربي لسيادة الولايات المتحدة والغرب عموما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء نظام القطب الواحد “مفهوما” رغم إدارة الظهر الذي قام به الغرب للحقوق العربية، ورغم العبث والخراب الذي أحدثه في كثير من دول المنطقة، لكن استمرار ذلك الانصياع كما هو في ظل ما يحدث في العالم من ارهاصات تشير الى خلق نظام عالمي جديد، يحد من هيمنة الغرب على العالم، هو خطيئة ترتكبها الأنظمة ليس فقط بحق شعوبها وبلدانها وإنما بحق نفسها ايضا.
ما يجري في العالم الآن هو فرصة تاريخية أمام النظام العربي والشعوب العربية – ربما لن تتكرر خلال سنوات طويلة-، لتبني استراتيجية تقوم على تقوية الذات والتقارب مع الشعوب “الطبيعية” في المنطقة على قاعدة الحوار الذي يبدد المخاوف، والمبني على مصالح مشتركة، أول السطر فيها أن اسرائيل هي الخطر الأكبر على المنطقة، وأن فلسطين هي حجر الزاوية في بناء الشرق المستقر والمعافى والمزدهر.
“عن الأخبار اللبنانية”
أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله*