الفصائل وفرص تعزيز صمود النازحين في غزة
بقلم: الدكتور طلال أبو ركبة*
أفرز واقع النزوح الذي فرضه عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي على المجتمع الفلسطيني في محافظات قطاع غزة، أوضاعاً أقل ما توصف بأنها مأساوية للغاية، خصوصاً في ضوء دفع المواطنين إلى بقع جغرافية غير مؤهلة لاستيعاب هذا الكم الهائل من النازحين والذين فاق عددهم المليون نازح في محافظة رفح والتي تبلغ مساحتها 55 كيلومتر مربع. والتي تفتقد أساساً إلى وجود مستشفى مركزي قادر على الاستجابة للاحتياجات الصحية الأساسية للمواطنين.
لم تكن سياسة النزوح التي فرضتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على كافة مناطق قطاع غزة المختلفة، مجرد إجراء احترازي تقوم به قوات الاحتلال لتجنب استهداف المدنيين كما يطالبها المجتمع الدولي بذلك، بقدر ما هي سياسة ممنهجة يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي بهدف تدمير البنى الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني في قطاع غزة. حيث بدأت تبرز معها في المجتمع الفلسطيني ظاهرة العصابات المنظمة التي باتت تبرز في قطاع غزة، مثل عصابات سرقة بيوت النازحين الأمر الذي يهدد بشكل كبير النسيج الاجتماعي والتماسك المجتمعي خصوصا مع ارتفاع حدة المشاكل والأزمات بين صفوف النازحين، إضافة إلى لصوص المساعدات والذين يقومون بالسطو على مخازن أو قوافل المساعدات كما حصل مع مخازن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا في مدينة خانيونس.
يتنامى بروز هذه العصابات في ضوء غياب القوى السياسية الفلسطينية، وعجزها عن القيام بدورها في تعزيز صمود المواطنين وحمايتهم من الاستغلال الذي يتعرضون له بكافة الصور والأشكال، سواء على صعيد الارتفاع المضطرد في أسعار كافة السلع حيث بلغ ارتفاع الخضروات على سبيل المثال عشرة اضعاف ما كانت عليه قبل الحرب، وعلى ذلك يمكن قياس كافة السلع الأخرى.
يمكن القول إن عجز القوى السياسية على مواجهة حالة الانهيار في المجتمع الفلسطيني تعود لغياب الرؤية لدى تلك القوى عن الكيفية التي يمكن من خلالها العمل على مواجهة الاستغلال والوقوف بوجه تجار الحروب الذين اغتنموا ولا يزالوا الفرصة في امتصاص دماء المواطنين و النازحين على حد سواء. إضافة لحالة الزبائنية والشخصنة التي تعمل وفقها القوى السياسية في توزيع المساعدات على المواطنين.
أنتج ذلك حالة من فقدان الثقة والعجز لدى القوى السياسية من التصدي للعصابات المنظمة التي باتت تبرز في قطاع غزة، والتي جعلت العديد من المواطنين يتعاون معها في إطار سعيه للحصول على قوت يومه أو خيمة يجمع فيها أسرته المشردة.
الخطورة أن ذلك ينذر بهيمنة عقلية العبيد على المواطن الفلسطيني، وهي العقلية التي من شأنها أن تدفع الإنسان للقيام بأي أعمال تطلب منه مقابل الحصول على قوت أطفاله، وهو ما يدفعه تدريجيا لأن يصبح عبدا ينفذ ما يطلبه منه دون ضمير أو أخلاق.
الوقت لم ينفذ بعد أمام القوى السياسية والمجتمعية لاستعادة ميكانزمات الضبط الاجتماعي والوطني، وابتكار أليات وطنية تحمي البنى المجتمعية الفلسطينية من الانهيار والوصول إلى نقطة اللاعودة، في استعادة الثقة في قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود مواجهة سياسة التفتيت الإسرائيلي لبنى المجتمع، وتدمير أواصر الترابط والتلاحم الوطني والمجتمعي، والذي يتطلب ضرورة أن تتجاوز تلك القوى حالة الصدمة أولاً، واستعادة تجربة اللجان الشعبية التي تم العمل بها خلال انتفاضة الحجارة في العام 1987، في كافة الأراضي الفلسطينية، لجان يمكن من خلال أن تؤمن البيوت المخلاة من سكانها بفعل سياسة النزوح الإسرائيلي، ولجان تعمل على تنظيم الأسواق وضبطها، ولجان تعمل مع التجار على ضرورة إعلاء مصلحة المجتمع والاكتفاء بالربح المناسب في سبيل حماية المجتمع من الاستغلال خصوصا في ضوء الأوضاع الاقتصادية الكارثية في قطاع غزة.
إن تخلي القوى السياسية عن دورها في حماية المواطن خلال العدوان ستكون عواقبه وخيمة على تلك القوى والتي قد يصبح مصيرها شبيها لحد كبير بمصير القوى والأحزاب السياسية ما قبل نكبة آيار 1948، والتي انتهت من الوجود صبيحة اليوم التالي للنكبة، كما أن عواقبه لن تقف عند حدود القوى السياسية، بل ستمتد لبنى المجتمع الفلسطيني والذي سيعاني من التفكك والانهيار والتي تسعى إسرائيل جاهدة للإجهاز عليها وتبديد أي قدرات فلسطينية على الصمود، وهو ما لا يجب أن يحدث. فالمعركة على الشعب والقضية تستهدف في الأصل بنى المجتمع ومقوماته قبل أن تستهدف مقاتليه، فهل تنتبه القوى السياسية لذلك وتستعيد جزءا من رونقها القديم المفقود!..
*د. طلال أبو ركبة – غزة – أكاديمي وناشط.
“wattan”