البرغوثي يكتب: غزة تعيد صياغة العالم اخلاقيا
بقلم: الدكتور إياد البرغوثي*
ليس من الحكمة الكتابة في مسألة متحركة كتلك الحرب التي تجري على غزة اليوم، إذ أن كثيرا من الاستخلاصات والاستنتاجات تترتب بالضرورة على مجريات الميدان. لكن ذلك إن حدث لاعتبارات معينة، فمن الهام جدا أن لا يخضع الكاتب لرغبة الجمهور، الذي غالبا ما يطالبه بالتحول الى “نبي” يخبره بنتيجة الحرب، ويريحه من سؤال القلق الذي يؤرقه طيلة الوقت. وعليه أيضا أن يذهب الى تلك الأبعاد والجوانب التي باتت واضحة، والتي لن يغير استمرار الحرب الا في جعلها أكثر وضوحا، وهو ما ينطبق على الهزيمة الاخلاقية المكتملة الأركان لإسرائيل، وللنظام الغربي عموما.
لا شك أن البعد الاستراتيجي لأي حرب، هو الأكثر اهمية وتأثيرا. لكن الخوض فيه فيما يتعلق بالحرب على غزة ما زال مبكرا، رغم اتضاح الكثير من ملامحه، فهو يتطلب انتظار النتائج النهائية لتفاعلات الميدان، أما البعد الاخلاقي والقيمي لهذه الحرب، فهو يكتسب ايضا اهمية قصوى واستثنائية، نظرا لأن مدلولاته تتجاوز الصراع الدائر الآن في غزة و”اكنافها”، لتصل الى الأسئلة الكبرى المتعلقة بلا أدنى مبالغة، بطبيعة النظام العالمي المأمول، وبحقائق الحاضر والمستقبل للبشرية عامة.
ما يجري في غزة الآن، يعيد الأشياء الى بداياتها وإلى أسئلتها الأساسية والكبرى، ليس فقط في ما يتعلق بفلسطين وقضيتها، وإسرائيل و”ملابساتها”، ولكن أساسا بالغرب ونظامه وقيمه، بل و”منجزاته”، حتى في أمور بدت للعالم ولفترة طويلة، انسانية مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي. ما يجري يضع كل علامات الاستفهام، بل في حقيقة الأمر يزيل كل تلك العلامات، حول الجانب الاخلاقي في حضارة الغرب، فيظهره على حقيقته عاريا، تلك الحقيقة التي كادت أن تختفي خلف “غبار” التقدم والتكنولوجيا والعولمة.
غزة الآن، تحفز فينا ليس فقط الرغبة، بل ضرورة إعادة النظر في كل ما يتعلق بالغرب وحضارته، من موضوع “النهضة” الى العالم “الجديد” والحروب الاستعمارية والعبودية ومفاهيم الحق والعدل والأخلاق والإنسانية وحتى السلام.
اخلاقيا، أظهرت غزة “العالم الحر” كما ولدته أمه، وكشفت ازمته، وأبرزت ما في حضارته من مخاطر على البشرية؛ “مفهوم” دعم الغرب لإسرائيل سياسيا، لكن تبريره لكل هذه الجرائم التي ارتكبتها في غزة بحق آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، بل وتشجيعها للإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، تجاوز كل منطق. أبطل تأييد الغرب لإسرائيل قدرته على التمويه والتمثيل، وأفقده “حرصه” على إخراج المشاهد بطريقة تظهر “تفوقه” الأخلاقي.
أراد القادة الغربيون إظهار السابع من أكتوبر وكأنه يوم خارج التاريخ، لم يكن شيء قبله، ولم يحدث شيء بعده. توافدوا الى اسرائيل، من أكبرهم بايدن الى أصغرهم (يصعب تحديده) ليظهروا تضامنهم معها، وليؤكدوا حقها في “الدفاع عن النفس” (إبادة الفلسطينيين)، وليجتمعوا مع أهالي “المخطوفين” لإبداء التضامن واكتساب البركة، وكأن مليون فلسطيني دخلوا المعتقلات الاسرائيلية منذ 1967، (إذ لا حاجة الآن لذكر ما كان قبل ذلك)، كان ما زال منهم في السجون حوالي الستة آلاف في يوم السابع من أكتوبر، وأضيف لهم أكثر من ثلاثة آلاف بعده، هم ليسوا بشرا.
ان القول بأن النظام الغربي بلا اخلاق لا يمثل كل الحقيقة، فالمصيبة أنه إضافة لكونه كذلك، هو انتقائي وعنصري و”استخدامي” في مواقفه “الاخلاقية”. ففي اوكرانيا مثلا ادعى أن أخلاقه لا تسمح له إلا بالوقوف مع اوكرانيا التي تتعرض “لعدوان” روسي، وأصدرت محكمة الجنايات الدولية، كأحد أدوات النظام الغربي، قرارا بتوقيف الرئيس بوتين بتهمة الترحيل غير القانوني للسكان والأطفال الاوكرانيين، بينما لا ترى المحكمة كما يبدو ترحيلا للسكان في غزة، ولا حتى نقلا لهم، أو ربما تعتبر أن الترحيل بالقصف “السجادي” الجوي والبري والبحري وإبادتهم يدخل في دائرة القانون.
من الواضح أن النظام الغربي الذي وصل في عنصريته وتنمره “الأخلاقي” الى درجة حرصه على أن “يترفع” عن ارتكاب جرائمه ذاتيا، إلا عند الضرورة القصوى، وأصبح يصنع ادواته “الاجرامية” من الشعوب المقهورة ذاتها، أو من تلك التي لا يهمه مصيرها ما دام ذلك يصب في مصلحته النهائية. هذا ينطبق على استخدامه لداعش، والشركات الأمنية، كما ينطبق على استخدامه لأنظمة تابعة كما هو الحال في اوكرانيا وكثير من دول الشرق، وجد أن الأمور تحتاج للتدخل “الشخصي” والمباشر عندما يتعلق الأمر باسرائيل، فجاءت بوارجه وقواته حتى قبل بدء المعارك.
ولكي لا تبعدنا هذه الصورة البشعة للنظام الغربي عن الصورة الإيجابية العظيمة للملايين من شعوب الغرب، فإن اعدادا متزايدة من تلك الشعوب، خاصة الشباب، تكتشف حقيقة نظمها وحقيقة اسرائيل، وتتمسك بموقفها الإنساني تأييدا لخلاص الفلسطينيين من هذا “الكابوس”، الذي مثل دور الضحية لأكثر من قرن من الزمان، فجاءت أحداث غزة الأخيرة لتظهره بكل الوضوح الذي لا يترك مجالا لأي شك. هذا التضامن الذي قام به أفراد في الماضي (ريتشل كوري مثلا)، تقوم به الملايين في أمريكا وأوروبا ومختلف بلدان العالم هذه الأيام.
اسرائيل.. السقوط الأخلاقي
ما أن وقعت أحداث السابع من أكتوبر حتى فقد الاسرائيليون صوابهم. لم يعودوا حريصين على “تنميق” ردود أفعالهم وعلى شكل وصولها الى العالم. كشفوا عن حقيقتهم وهذا لم يحدث لهم إلا في مرات نادرة، كان السابع من أكتوبر أبرزها. لقد أثبتت هذه المرات النادرة، أن اسرائيل المذعورة، هي اسرائيل الحقيقية.
في ذلك اليوم عاد الاسرائيليون الى الجذور.. كيانا عنصريا استعماريا قائما على التخلص من الشعب الفلسطيني تهجيرا أو إبادة، ويرى في وجود الفلسطيني نفيا لوجوده هو.
بعد ذلك اليوم مباشرة صرح نتنياهو أن الذين في غزة ليسوا من البشر، ووصفهم وزير دفاع اسرائيل غالانت بالوحوش الآدمية، وقال أنه سيقطع عنهم الماء والغذاء والكهرباء وفعل، كما هدد وزير التراث الاسرائيلي بضرب غزة بالقنابل النووية.
هذا على مستوى التصريحات، أما على مستوى الإجراءات، فقد قامت اسرائيل بالتنكر لحرية التعبير التي حرصت طويلا على إظهار صورتها كممثل “للعالم الحر” في المنطقة؛ قتلت عشرات الصحفيين في غضون أيام، وأغلقت مكتب قناة الميادين، وهددت الجزيرة، وأخذت بالتشويش على وسائل التواصل الإجتماعي ومراقبتها والحد من فعاليتها، وأخذ الجنود بالسؤال عن هواتف الفلسطينيين على الحواجز قبل السؤال عن هوياتهم لتفتيشها، وتمت معاقبة الكثير من الاسرائيليين بمن فيهم عضوتي برلمان ابدتا تعاطفا مع ضحايا العدوان في غزة، وقامت بخصم راتبهما، تماما كما تفعل سلطات بعض بلدان العالم الثالث، تلك التي لا تفرق بين الدولة والنظام، أو بين المواطنة والموقف السياسي.
عسكريا، ضربت اسرائيل غزة بكل مرافقها أمام الكاميرات وبلا أدنى مواربة؛ الأبراج السكنية والبيوت والمستشفيات والجامعات والمدارس التي تتبع في معظمها وكالة الغوث، والبنية التحتية وكل شيء… لم يبق شيء أو مكان له حرمة في غزة، فسقط الضحايا بالآلاف، اطفالا ونساء وشيوخا في مناظر لا يمكن لآدمي مهما كان قاسي القلب أن يتحملها.
هذا ما يفعله النظام الاسرائيلي الآن في غزة، “تفوق” في القتل يزداد حدة و”نجاعة” كلما اخفق في القتال. مما نشاهد، يبدو أن اسرائيل خدعتنا إذ اقنعتنا أن جيشها يقاتل، فتاريخه لا يتعدى القتل وارتكاب الجرائم. ويريد هذا النظام أن يقتنع الجميع بروايته وبتفوقه، ومن لا يفعل ذلك، سيكون موضوعا “للشيطنة” من قبل اسرائيل والغرب و”توابعهما”.
ومما يعمق من مسألة الانحطاط الاخلاقي في اسرائيل، وربما ما تتفرد به بين دول العالم، أن ذلك لا ينطبق على النظام السياسي وحده، بل يشمل كثيرا من النخب ومعظم المجتمع، نظرا للحالة الخاصة التي تكون بها ذلك المجتمع. ربما من أبرز الدلائل على ذلك، اضافة الى جرائم المستوطنين في الضفة، تلك العريضة التي وقعها الف من الأطباء الاسرائيليين يطالبون بمهاجمة مستشفيات غزة بذريعة استخدامها من قبل “الإرهابيين”.
من المؤسف أن القوى الصهيونية التي اغتصبت فلسطين وتمثلت بدولة اسرائيل بعد قيامها، قامت أيضا باغتصاب تمثيل كثير من اليهود غير الصهاينة، البريئين منها ومن عنصريتها واهدافها الاستعمارية. جزء من هؤلاء أخذوا يدركون ما تشكله حقيقة هذه الدولة سياسيا وأخلاقيا،ليس فقط على الفلسطينيين والشعوب المجاورة، بل وحتى على اليهود أنفسهم، كما ظهر في المظاهرات التي شارك فيها العديد منهم استنكارا للجرائم التي ترتكبها اسرائيل في غزة.
أن اسرائيل بأفعالها هذه، تشكل عبئا على الفلسطينيين والعرب والبشرية كلها، بما فيها اليهود أنفسهم. إنها تخلق أزمة لليهود عليهم تداركها بالرفض العلني والواضح لتمثيلها لهم، وبالتبرؤ من كل ما ترتكبه من جرائم. ان عدم تدارك اليهود لخطورة اسرائيل وتصرفاتها عليهم ربما يؤسس لردود أفعال قد يكونوا هم ضحاياها في المستقبل.
تكفي مراجعة سريعة لتاريخ الصراع العربي الاسرائيلي لإظهار أن اسرائيل لا “تتنازل” عن أي شيء إلا بالقوة، هذا ما حدث عند انسحابها من اراض احتلتها في مصر وسوريا ولبنان، وهذا ما ظهر في كل حالات تبادل الأسرى. هذا ما يفسر أنها أفرجت عن آلاف الأسرى عندما امتلك الطرف المقابل وسائل قوة للضغط عليها، بينما لم تفرج حتى عن أسير واحد لأسباب إنسانية، أو مكافأة “لأصدقائها” في الجانب الآخر.
ان الدولة التي لا ترتدع إلا بالقوة، ولا تأخذ عبرة من لحظات ضعفها عندما تكون في أوج قوتها كإسرائيل، يعني أنها دولة بلا اخلاق وبلا ضمير، ويعني أنها عبء على العالم، ليس من السهل التكهن بما قد يصدر عنها من جرائم، وتزداد خطورة ذلك عندما نعرف أنها دولة نووية، وتشعر بدعم مطلق لها من القوى الغربية الكبرى.
فلسطين… اختصار الأخلاق
مقابل ذلك، تجسد فلسطين بقضيتها كل حقوق الإنسان، وكذلك المفهوم الحقيقي للأخلاق. فرغم كل ما ارتكبته الصهيونية بحقهم لم يتصرف الفلسطينيون مرة كمنتقمين. وعندما اتيحت لهم فرصة القتال قاموا بذلك بأخلاق. لم يكونوا قتلة أبدا كأعدائهم بل كانوا مقاتلين حقيقيين، وعندما أسروا من اعدائهم تعاملوا معهم بأخلاق. حتى الأسر نفسه لم يكن عندهم هدفا بذاته، بل من أجل تحرير اسراهم.
وإذا كان من مأخذ على البعد الأخلاقي للفلسطينيين في طريقهم للتحرر، فهو ذاك الحد من “السذاجة” التي يصلوا اليها عندما يراهنون على اخلاق عدوهم. ان من يمعن التفكير في عملية اوسلو مثلا، التي كانت أكبر خطوة للفلسطينيين بإتجاه إيجاد حل ما لقضيتهم، يجد أن المشكلة الكبرى كانت في افتراض أن تصرفهم بحسن نية يفترض تصرف عدوهم كذلك، وهو ما عانى منه الفلسطينيون وما زالوا.
فلسطين والنظام الاخلاقي الجديد
لا بد للنظام العالمي العتيد أن يكون معقولا ومقبولا… وهذا يعني أنه يجب أن يكون اخلاقيا. لقد وجهت فلسطين بتفوقها الاخلاقي الذي أصبح مؤخرا في غاية الوضوح، تماما مثلما فعل الوضوح اللا أخلاقي لأعدائها، ضربة قاصمة “للتفوق” الأخلاقي للغرب. هذا يشير ليس فقط الى دور فلسطين في إعادة صياغة الشرق “اخلاقيا”، بل الى دورها في إعادة صياغة العالم.
ان الذي جرى في غزة وفي فلسطين مؤخرا، وما اقترفته اسرائيل وامريكا، والمواقف التي اتخذتها الدول الاوروبية الغربية دعما للاحتلال وجرائمه، بل تلك المواقف ضد وقف إطلاق النار، الذي اتخذه الغرب وكذلك الأمم المتحدة ذاتها، وهي التي يفترض أن يكون ذلك أهم أهدافها، قدم خدمة كبيرة للصين وروسيا وكافة البلدان التي تسعى لإيجاد نظام عالمي مختلف، ينبغي أن يكون أكثر عدلا وأخلاقا.
لقد أثبتت القضية الفلسطينية أن العدل أساس السلام، فالعدل هو ما يزيل الظلم وليس السلام المجرد، وما حديث الغرب وإسرائيل عن السلام دون إزالة الظلم الواقع على الشعوب وخاصة الشعب الفلسطيني، إلا تكريس لنظام عالمي غير معقول.
كما أثبتت شعوب العالم من خلال تضامنها مع غزة وفلسطين، رغبتها في نظام عالمي تسوده الأخلاق. دلت على ذلك مظاهرات بريطانيا وإسبانيا وإندونيسيا وواشنطن وطلاب هارفارد وغيرها من الجامعات. لن ترضى هذه الشعوب بنظام تتحكم فيه الولايات المتحدة بهكذا اخلاق بمصير العالم، ولن ترضى أن تستمر اسرائيل في فرض احتلالها وعنصريتها وهيمنتها على فلسطين والمنطقة… هذا ما ينبغي أن يكون بعد كل ذلك الدم الذي اسالته اسرائيل في غزة.
*باحث وأكاديمي فلسطيني / رام الله